رأي

عبد الغني القاسمي: المثقف و السياسة و تراجع دور النخبة

 يتساءل الباحثون في المغرب بخصوص النخبة و خاصة منها المثقفة ، هل هي شاعرة بمسؤوليتها و دورها في كل عملية تطوير تتطلبها الصيرورة التاريخية التي تعرفها البلاد حاليا ، اذ ان المثقف الحقيقي حسب جان بول سارتر هو الذي يثبت وجوده في كل مناحي الحياة سواء طلب منه ذلك أم لم يطلب لأن دوره يفرض عليه أن يثبت ذاته بالحضور و المشاركة.

ومن حق المجتمع على المثقف أن يساهم في الاعداد للتغيير حتى لا أقول صناعة القرار ، و لا خير في مثقف اختار الانزواء و التملص من دوره و صار عدميا لا تهمه الا نفسه التي قد تكون أمارة بالسوء في بعض الحالات ، واذا اتسم المثقف بهذه الصفات وتراجع الى الوراء فمن الطبيعي أن يترك الفراغ الذي يملأه عادة من هم دونه تكوينا و تعليما و وعيا ليبدأ السقوط في حمأة التردي المجتمعي بدون رادع . ومع ذلك ، لا يمكن الجزم بوجود مؤامرة أزلية تهدف الى محاصرة المثقف و محاربته للحيلولة دون افساح المجال أمامه لقيامه بدوره.

 و لكن ما هو حاصل يؤكد بالملموس أن الكثير من الكفاءات المثقفة المغربية قد عزفت عن ممارسة العمل السياسي حتى لا تتلوث سمعتها ، هذا العمل الذي أصبح يتهافت عليه كل من هب و دب ، يتسابق نحوه المتلهفون لجني الغنائم و ربح المكاسب ، و لعل هذا ما جعل في نظري المفكر المغربي و الأستاذ الجامعي المتميز الدكتور محمد سبيلا يأخذ مسافة فيما بينه و الاشتغال بالسياسة.

و قد قرأت له في الصفحة الأخيرة من جريدة المساء ( عدد الجمعة ) مواقف جريئة أفصح عنها انطلاقا من تجربته داخل اليسار المغربي ، و هي مواقف تذكرني بمواقف مماثلة كان قد اتخذها قبله المفكر الراحل محمد عابد الجابري و التي أدت به الى مغادرة الحزب الذي كان من أبرز قادته و تطليق السياسة و قطع الصلة بأهلها.

الدكتور محمد سبيلا و هو صديق قديم لي رجل خبر دروب السياسة منذ أن كان طالبا أبهرته أضواء الستينات المشبعة بزخم من الشعارات البراقة و عناوين البرروباكاندا الايديولوجية ، فكان من يجاري تلك الشعارات و العناوين و يرددها يحسب على التقدميين اليساريين و من لا يجاريها ينعت بالرجعي و العميل للامبريالية الأمريكية ، يقول سبيلا في مخرجاته : في السياسة نكتشف شراسة الأشخاص و عنفهم و حبهم للانتفاع و الكسب ، ثم يقول : الفرق بين الذاتي و الموضوعي في العمل السياسي تجسده فرحة الفائز في الانتخابات الذي تنتابه حالة هستيرية ثم أثناء الحملة تبدو عليه الطهرية والمثالية و البطولية ، ثم سرعان ما يتحلى بارادة السيطرة و الهيمنة والرغبة الجامحة في الاستفادة المغلفة بالألوان الايديولوجية البراقة ، و عن الزعامات الحزبية التي تفتقدها أحزاب اليوم ، يعطي سبيلا مثالا بثلاثة زعماء رحلوا فرحلت معهم الزعامة في المغرب وهم الأساتذة علال الفاسي و عبد الله ابرهيم و عمر بنجلون ، و كان عليه أن يذكر أسماء زعماء آخرين رغم قلتهم . في نظر المتحدث أن الزعامات منها العنيفة و الشرسة باسم المبدأ و منها ما ينتمي الى طينة الصادقين في أقوالهم و أفعالهم ، و أعطى مثالا آخر على المستوى العربي ، فهو يرى في الراحل جمال عبد الناصرذلك الرمز للقائد السياسي الذي حمل قناعات قومية في العمق رغم تأثره بالخط الدعوي للاخوان المسلمين قبل انقلاب 1952، و أنه حاول التوفيق بين تلك القناعات والتوجه التقدمي اليساري الذي كان موضة سائدة في عقدي الخمسينات و الستينات من القرن الماضي ، و يردف الدكتور سبيلا قائلا : السلطة علمت عبد الناصر الاستبداد و استعمال القوة و التفرد بالقرار في مواجهة الخط الراديكالي الاخواني و من كان يسميهم أعداء مصر و الأمة العربية و حركات التحرر التي يتعاون مع الاتحاد السوفياتي من أجل تبنيها ، و قد استخلصت مما قرأته للدكتور سبيلا أن بين السياسة و المثقف في المغرب يوجد شرخ عميق و لذلك فالنخبة ستظل في واد و السياسة بقومها و قياداتها الحزبية في واد ، وهذه هي الحقيقة المرة .