تحليل

دار الحديث الحسنية

عبد الرحمان شحشي*

أنشأ الحسن الثاني "دار الحديث" التي تحمل اسمه بتاريخ 26 رمضان 1384 هجرية الموافق 11 فبراير 1964 ميلادية، وأعلن في خطاب تأسيسها عن إحداث "مجالس الدروس الحسنية" بالتاريخ نفسه، كما تضمن الخطاب نفسه المرامي والأهداف والبواعث وأسباب النزول الرامية إلى قيامها، لما لاحظه جلالته من ضرورة تحصين "مقوماتنا الروحية التي نعتز بها من كل زيغ وتضليل، وتحريف" إيمانا منه بأنه لا صلاح للأمة إلا بما صلح به أولها، معتبرا أن المغرب لا تنقصه ولا تعوزه الوسيلة لتحقيق بناء هذه الدار قائلا: "إن فتوحات المغرب العلمية لا تقل شأنا عن فتوحاته السياسية، فما أكثر أولئك العلماء المغاربة الذين أسهموا في الحضارة العربية الإسلامية بالنصيب الأوفى.. وإن تراثنا الإسلامي المغربي منه بصفة أخص لخليق أن يحملنا على الاعتزاز به"، ويضيف أمير المؤمنين محددا وراسما أهداف دار الحديث الحسنية في وقاية التراث الإسلامي المغربي من "خطر العفاء والاندثار مع جعله في ذات الوقت مسايرا لمتطلبات القرن العشرين ومواكبا سير الحضارة العصرية..."..

لهذا، فإن الحسن الثاني أراد من هذه الدار أن تكون محركا مجددا لصروح الدين العلمية، وقد قامت سابقا بهذا العمل جامعة القرويين بفاس و"التي حج إليها الرواد من جميع أنحاء المعمور، وحتى من أوروبا، كانت في بعض عصورنا الذهبية عصارة ما انتهى إليه الفكر البشري الذي تلاقح بمختلف إنتاج الحضارات" يقول الملك الذي يريد من دار الحديث أن تقوم بعمل تجديدي معتبرا "أن عملا تجديديا كان لا بد أن يصاحب ذلك التراث ليتطور وينمو ويثبت.. أمام التيارات الفكرية والاكتشافات العلمية.. فلا بد أن نحافظ على ذلك الرصيد الزاخر ربطا لحاضرنا بماضينا.."

وبالإضافة إلى هدف تطوير التراث الإسلامي المغربي وحفظه من الضياع وتجديده حتى يبقى مواكبا للعصر، فإنه بالضرورة ستقوم دار الحديث وعلى أيدي أساتذتها، الذين اختيروا من جامعة القرويين بفاس وكلية ابن يوسف بمراكش وجامعة محمد الخامس بالرباط بالإضافة إلى علماء أفاضل من العالم الإسلامي" علماء لن تكون مهمتهم الوعظ والإرشاد، ولكن علماء يكونون الإطارات التي تعادل في كفاياتها واطلاعها من عرفه المغرب من علماء مرموقين في هذا الميدان أصبح عددهم يتضاءل بكل أسف ونأمل أن يسد خريجو دار الحديث فراغهم".

وعليه، فالحسن الثاني أراد من هذه الدار كذلك أن تكون "مستنبتا" للعلماء المغاربة المدافعين عن السياسة الدينية لأمير المؤمنين.

والحسن الثاني بقيامه بهذا العمل ليس "مبتدعا"، كما أنه لم يحدث هذه الدار لمواجهة الكفار وإنما لإحياء التراث الإسلامي وصونه من الاندثار وتجديده وتكوين أفواج العلماء.

وقد عرفت مجموعة من "دور الحديث" بجل أقطار العالم الإسلامي أشهرها:

دار الحديث النورية، وهي أول دار الحديث، أنشئت بدمشق سنة 569 هجرية شيدها نور الدين محمود بن أبي سعيد زنكي، وكان بن عساكر صاحب تاريخ دمشق وأحد حفاظ الإسلام من شيوخ هذه المدرسة التي كانت تخضع لتنظيم خاص.

دار الحديث الكاملية، وقد تأسست هذه الدار بالقاهرة سنة 622 هجرية بأمر الملك الكامل ناصر الدين الأيوبي، وكان الحافظ عمر بن الحسن المشهور بابن دحية أول أساتذتها وشيوخها.

دار الحديث الأشرفية، تأسست بدمشق سنة 626 للهجرة، وقد عين الحافظ ابن الصلاح أول شيوخها، كما عرف من بين أساتذتها محي الدين النوري شارح صحيح مسلم.

وقد انفردت هذه الدور الثلاث بالأسبقية التاريخية والشهرة العريضة في العالم الإسلامي، ثم أنشئت بعدها دور للحديث الشريف في كل من مصر والشام والعراق وتركيا، وكانت تسير على منوالها، وتقتفي أثرها، وتطبق برامجها؛ مثل: النبيهية والسكرية والظاهرية، والمستنصرية، والسلمانية وغيرها. ولم يقتصر تأسيس دور الحديث على الملوك والأمراء بل شاركهم في ذلك العلماء والموسرون والوزراء وسواهم.

كما أن هذه الدور لم تقتصر على خدمة الحديث ونشر علومه؛ بل قامت بدور فعال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد المسلمين وتوجيههم، وتكوين الأطر الصالحة للدفاع عن مقدساتهم.. ونشر مكارم الأخلاق بين مجتمعاتهم".

وفي هذا الإطار، "جاء إنشاء دار الحديث الحسنية –(ظهير شريف بتاريخ 11/5/1388 هـ الموافق 6/8/1986)- تتويجا للمسيرة العلمية لجامعة القرويين بمؤسسة موازية لها للدراسات العليا في علوم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والفقه الإسلامي، وغيرها من العلوم الإسلامية، صيانة لها وتكوينا لصفوة من العلماء.."؛ حيث يقول الحسن الثاني إنه "منذ ثلاث سنوات قررنا أن نضع اللبة الأولى لدار الحديث حتى نلقح علماءنا الشباب والكهول بلقاح جديد، وحتى نعطي لهذه المادة، مادة الحديث معناها الحقيقي، فكنا نسمع بالمحدث الذي يعرف الأصول ويتقن كتاب الله.. وعلى بال وبينة تامة من الفقه والقانون ولكن لم نكن نسمح محدثا يحاول أن يستنبط من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومن آيات كتاب الله القواعد العصرية الفقهية التقنية العلمية التي من شأنها أن تجعل من مجتمعنا هذا مجتمعا مثاليا للحضارة؛ بل يتقدم تلك الحضارة، لا مجتمعا راكدا أو يطلق عليه الناس أنه مجتمع راكد.. فدار الحديث أول واجباتها أن تفتح الآفاق للبحث والتلقيح.."، لكن الملك سوف يقوم بنقله نوعية باشتراطه "لدخول دار الحديث أن تكون للمرشحين الإجازة في الحقوق قبل أن تعطي لهم الإجازات لأنه لا خير في فقيه إذا لم يعرف أسباب التشريع، وإذا لم يعلم بروح المشرع، ونية المشرع، وما يريده المشرع".

*أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بكلية الحقوق – جامعة الحسن الأول بسطات