مصطفى المريزق: في الطريق إلى مغرب المستقبل

عدة تجارب يفتخر بها المرء في حياته، ولو كانت جد متواضعة. وكيفما كانت نتائجها، تظل تفاصلها وحيتياتها موشومة في الذاكرة. ولأن العقل يولد صفحة بيضاء ليس فيها نقش سابق على التجربة، وبما أن المذهب النقدي يتوسط التجريب والعقل بالنسبة للبعض، ومهمة الأفكار تساعد على تنظيم الحقائق وربطها بعضها البعض، فإن تجربتي القصيرة داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي، وبالضبط مع تيار السيدة سيكولين روايال، أيام ترشحها لرئاسة الجمهورية الفرنسية عام 2007، تجعلني اليوم أستحضر أمور عديدة مرت أمامي آنذاك ولم أستوعب مغزاها ومعانيها. ومن بينها، كيف اختار آنذاك عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين، الخبير العالمي في الحركات الاجتماعية، مراسلة المرشحة سيكولين، معتبرا خطابها يحمل لغة جديدة تختلف عن الخطابات الكلاسيكية، ومقاربتها للتغيير والانفتاح، بقوة مؤثرة في صفوف ملايين المواطنات والمواطنين.

ألان تورين حين اختار فتح الحوار مع المرشحة الطامعة في قصر الايليزي، لم يخترها لشخصها أو لاسمها السياسي، بل لأنه رأى فيها استعدادها للحوار والتجاوب والاحترام وحرية التفكير، والجلوس وجها لوجه معها، للتفاعل مع كل الأسئلة المحرقة التي كانت مطروحة على طاولة الحوار السياسي في تلك الفترة. وهو ما قبلت به سيكولين رويال من دون قيد ولا شرط.

ومن بين أهم خلاصات هذا الحوار، نذكر من جانب ألان تورين، قوله بأن هناك أزمة سياسية في فرنسا دفعت بالفرنسيين إلى الابتعاد عن الحياة السياسية، لأنها لا تقدم حلولا للمشاكل، وأن السياسيين يستعملون لغة قديمة في تحليلهم لقضايا جديدة. وهو ما أشعل نار الحملة الانتخابية بين سيكولين رويال ونيكولا ساركوزي.

أما سيكولين رويال، فمن بين خلاصاتها، نذكر تلك المتعلقة بطرح العديد من الأسئلة المتضمنة للجواب عن مفهوم العمل السياسي، معتبرة أن الحزب السياسي يجب أن يكون أحسن من المجتمع الذي ينتقده والذي ينوي النضال ضده.

أستحضر اليوم جزء من ذكرياتي هذه، لأذكر بما أشرت له في مقال سابق عنونته ب "نهاية المغرب"، في ظل غياب تام لأي حوار مجتمعي، وفي ظل هوة عميقة بين رجال الفكر والنخب والفاعلين السياسيين، وفي زمن اليأس الاجتماعي، والإدارة السياسية، والإحباط الثقافي، وما وصلت إليه بلادنا من فقر وهشاشة، حيث الفقراء فاق عددهم 12%، وحيث وصل المغاربة في أوضاع هشة ما يقارب 13%، وحوالي نصف ساكنة البلاد مهددة بالفقر.

وما "المقاطعة" السلمية (للبضائع) التي إختارتها شرائح مهمة من الشعب، إلا دليلا على ما وصل إليه ميزان الحرارة في بلادنا.

ورغم ذلك، فنحن لازلنا نتطلع لولادة مغرب المستقبل، ولاطلاق حوار مجتمعي حول كل الأمراض التي اصابتنا.

لقد آن الأوان لإعادة النظر في المشهد السياسي، وفي دور الأحزاب والنقابات والجمعيات والمنظمات المركزية، بعيدا عن المزايدات السياسية والإيديولوجية، وبعيدا عن أي عبادة أو دين.

كما آن الأوان لطرح سؤال التعددية الحزبية و وجود 36 حزب ببلادنا، وسؤال تكلفة الأحزاب والنقابات والجمعيات والمنظمات.، وأسئلة أخرى من نفس المعدن.

لقد أرهقتنا البروتوكولات السياسية، التي حلت محل البرامج والمشاريع المجتمعية، كما أرقهتنا مخلفات زواج المخزن بالسياسة وبالسياسيين، وبالتقاليد الاجتماعية المتخلفة والبالية، وبالممارسات الرجعية المحافظة منها والنكوصية، حتى هوى النموذج الاقتصادي والاجتماعي، وسقطت معه كل أقنعة آلة الإدماج والمقاربات التشاركية المزعومة، انطلاقا من قمم المؤسسات المريضة، وعبر شخصيات موالية، ورموز وطنية مزيفة، في حلة قديمة مستعملة ومتجاوزة.

إننا اليوم أمام خيارين إذا أردنا الذهاب في الطريق إلى مغرب المستقبل: فإما أن نطلق حوار مجتمعي في كل جهات المملكة حول واقع وحال البلاد يشارك فيه الجميع لإستكمال الانصاف والمصالحة في كل أبعادهما، أو تعلن الدولة حالة استثناء، وتحل كل المؤسسات الحزبية والمنتخبة والهيئات الاستشارية، ونشرع في محاكمة كل من أوصل البلاد إلى الفساد، والى إفشال أوراش العهد الجديد ونهبها، واستحوذ على الثروة الوطنية والسلط، وشل النموذج الاجتماعي والاقتصادي وعمل العدالة المالية والاجتماعية ببلادنا، وكرس فقر وتهميش مغاربة المغرب العميق وحرمهم من الحق في البنيات الأساسية (التعليم، الصحة، الشغل والسكن).

فحينما نقرأ تاريخ وحاضر الأمم التي تحترم نفسها، نجد أن العدالة الاجتماعية مبدأ أساسي للتعايش السلمي، عبر تأصيل وتحقيق المساواة بين الجنسين في الإرث وكل الحقوق، وتعزيز وصيانة حقوق الإنسان الجماعية منها والفردية، وتفعيل الحقوق الثقافية، بما فيها حقوق الأقليات، وضمان العدالة اللغوية بمختلف مكوناتها، وفرض العدالة الضريبية على الجميع.

إن التاريخ المغربي يعج بالكثير من الحركات الاجتماعية الباصمة لمسارات من الأحلام والتحول، واليوم لا يمكن بناء مغرب المستقبل مع من ترك 700 ألف طفل خارج منظومة التعليم الأولي، ومع من ترك هذا القطاع خارج اهتمامات السياسات العمومية، وتركه للنهش والعشوائية، وخارج أجندة السلطات العمومية. كما لا يمكن لشبكات الدولة المغربية التقليدية، أن تستمر في سياستها الانتقائية، والزبونية والمصلحية، مدمرة حياة وطاقات من يشكل أزيد من نصف مجتمعنا. وهم الشباب، الذين يشكلون الطاقة البشرية والحيوية القادرة على القيام بالثورة النهضوية والتنموية.

إن الحوار الذي ندعو له الآن وأكثر من أي وقت مضى، هو الحوار من أجل الوطن، وليس حوار من يملك الأغلبية أو من يوجد في المعارضة، أو الرافض للعملية من أصلها، أو للاصطفاف وراء مع أو ضد فلان أو فلان، هذه "الفلسفة" انتهت ويجب أن تنتهي.

لقد بات من المطلوب في ظل أزمتنا، التفكير في النتائج والغايات. وأي مخرجات لهذا الحوار المجتمعي، يجب التحقق من منفعته في الواقع المعيشي للناس.

إن البلاد في ورطة حقيقية! وكل من يريد الهروب بنا إلى الأمام يجب أن يحاسب، لأن مقياس الصواب لم يعد هو التنابز بين الأحزاب والتغني بالتمني أو الشعارات، بل يكمن في القيمة المنصرفة في دنيا الواقع، انطلاقا من برامج الأحزاب حقيقية وليس الأشباه الأحزاب.

لا يهمني اليوم أن أكون ليبراليا، أو برجماتيا أو ماركسيا، أو مع هذا الحزب أو ذاك.. ما يهمني هو بناء مغرب المستقبل..كيف؟ ومع من؟

طبعا، لسنا من فصيلة المؤمنين بأن الأفكار لا قيمة لها إلا متى تحولت إلى أفعال تودي إلى إعادة تنظيم العالم الذي نعيش فيه، وتسلم إلى إعادة بنائه. لكننا نؤمن بضرورة تغيير مجتمعنا ليغير الناس أنفسهم. وهذه حجتنا في الدفاع عن التغيير مع كل من يحلم معنا بالذهاب في الطريق نحو مغرب المستقبل.

إننا نقبل في مهمتنا هذه بالعمل القاعدي من أجل التحرك لتجنيد أهداف التنمية المستدامة، والمساهمة إلى جانب السلطات العمومية المغربية في تقعيد الإستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030، لكننا لا نقبل استمرار الوضع على حاله، والوسط الحضري وصلت فيه البطالة إلى ما يقرب 43% في فئة أقل من 25 سنة. فأي حفاظ على الوضع القائم، لن يسهم إلا في تفجير أكبر قنبلة في تاريخ المغرب الحديث.

إن بناء مغرب المستقبل، بعد نهاية المغرب القديم، لن يتم بثقافة الاحتواء والقمع، والاستمرار في إدماج آليات بالية وفي سد الثغرات بالترقيع، ولن ينبعث من بنيات إيديولوجية مستعملة. إنه يمر عبر فض النزاع بين القديم والجديد، حتى لا نترك الفضاء العام للفوضى وللشعارات التي تسائل أحيانا النظام السياسي المغربي في أحداث لا أهمية فعلية لها.

وبشكل أكثر دقة، فإن اللعبة السياسية القديمة/ الحالية، انتهى دورها، وتقييمها في حوار مجتمعي وطني، بات ضرورة تاريخية من أجل الأمن والاستقرار.

لم يعد لنا من الوقت ما نضيعه في فرجة الفاعلين السياسيين التقليدين المستهلكين، والذين تحول على أغلبيتهم العديد من الشبهات، كما لم يعد المغرب في حاجة إلى هذا الكم الهائل من الأحزاب السياسية بدون فائدة. المغاربة في حاجة اليوم إلى قطبية سياسية واضحة، و تعبئة جماعية من أجل الخروج من الورطة التي أوقعنا فيها من تربع على الكراسي الحزبية والنقابية وعلى المؤسسات المنتخبة والإدارات منذ الاستقلال.

تعبنا من المقاربة الأمنية للاحتجاجات وللحركات الاجتماعية، ومللنا المفاوضات السياسية المنبطحة من أجل القبول بالإجماع المبيت. كرهنا النزاعات السياسية العقيمة، ونظام "السخرة" في السياسة. نريد العدالة الاجتماعية التي تقودها الدولة الاجتماعية، وليس دولة يقودها "السراق" من مختلف الأحجام، وليس دولة يقودها أصحاب المال، ومن يعتبرون الوطن "وزيعة" أو "كعكة"، ومن يعتبرون المغرب "ضيعة" ورثوها شرعا عن المخزن القديم، أو عن الحركة الوطنية، أو من المصاهرة مع النافذين في الدولة والمقربين منهم.

مغرب المستقبل هو طموح مشترك، هو بناء مشاريع جماعية تستهدف إقامة نظام اجتماعي جديد لحياة الناس، تستند إلى عدم الرضا عن النمط السياسي والحكومي الذي ساد منذ عقود من الزمن.

الطريق إلى مغرب المستقبل، هو طموح مشترك، هو من أجل مغرب يقبل التغيير والتخلي عن امتيازات الريع بكل أنواعه، وصناعة التحول الذي ينتفي فيه الواقع ويتأسس فيه آخر، مغرب الإيمان بجهود منظمة، يبذلها جيل جديد من السياسيين والنخب والمفكرين والمثقفين والأطر والكفاءات، بهدف التغيير أو مقاومة من يقف ضده.

الطريق إلى مغرب المستقبل يفترض التنظيم والتكوين والتأطير لبلوغ هدف التغيير المنشود، من دون أن ننسى القضايا الموجبة والمولدة والمتمثلة في ثالوث الحق في الثروة الوطنية والسلط، والحق في العدالة المجالية، والحق في البنيات الأساسية الأربع: التعليم، الصحة، الشغل والسكن.

لا نريد صراعا إيديولوجيا بين "المعسكرات" السياسية المغربية المصطنعة، نريد مدخلا موحدا في إطار جدل المركز والهامش من أجل السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، بعيدا عن التسلط والإكراه، وبعيدا عن عشائرية الأحزاب السياسية، وأنانية وعجرفة قياديها.

الطريق إلى مغرب المستقبل هو مغرب التوحيد السياسي والثقافي للمغاربة، من أجل رد الاعتبار للمدرسة العمومية وللثقافة، وعدم تأليب المغاربة على بعضهم، كانوا عرب أو أمزيغ، أم كانوا مسلمين أو يهود أو مسيح، أو غير متدينين..

الطريق إلى مغرب المستقبل، يمر عبر تفكيك البنيات القديمة في مؤسساتنا، وتقوية إيماننا في الانعتاق والتحرر، وابتكار أنواع جديدة من التضامن والتعاون والتكافل بين المغاربة الذين هم اليوم في حاجة عاجلة لتغيير الحياة السياسية، ويطالبون بحلول عاجلة لمشاكلهم، برؤية جديدة وقوة حالمة ومبدعة.

لقد آن الأوان لتجاوز الصراعات الانتخابية البئيسة والمصطنعة، للخروج من النفق المظلم. وهذا يتطلب قول الصراحة للمغاربة، واحترام المناضلين المتأصلين الذين اختاروا الوطن قبل الإيديولوجية، واختاروا النضال بالكفاءة والانتاجية والمردودية وبعرق الجبين، واختاروا النضال من أجل التغيير وليس من أجل الاستحواذ على المال العام وشراء الذمم، واستعمال السياسة مطية للريع. لأن الطريق نحو مغرب المستقبل، هو قيم إنسانية ضد المكر والخداع، وليس قيم انتخابية، ودسائس سياسية.

وأخيرا، إن الطريق نحو مغرب المستقبل، لن يولد إلا بتشييع جنازة المغرب القديم قبل دفنه، إذا كنا فعلا نريد أن نؤسس فعلا للدولة الاجتماعية، العلمانية والديمقراطية، عبر تحقيق التنمية وصون كرامة الإنسان، وتوفير الشغل للشباب، والحماية الاجتماعية لكل سكان مغرب الهامش، وإعمال المبادئ والحقوق الأساسية لتحقيق الكرامة الإنسانية، وإقرار الحرية الجماعية والفردية، ووقف الظلم والفساد والزبونية والمحسوبية، وضمان التعليم للجميع من دون قيد أو شرط، وتوزيع الضمان الاجتماعي والخدمات على كل الفقراء وعى كل المغاربة في وضعية إعاقة وهشاشة، وضمان الحق في المعلومة والكتب والأدوية والانترنيت للجميع.