لحسن حداد: في نقد الحاجة إلى تجديد المشهد الحزبي المغربي

يتسم الوضع السياسي الحالي في المغرب بضبابية قاتمة من حيث عدم وضوح الرؤيا، وغياب الاتفاق بين الفرقاء حول قواسم مشتركة ملائمة للمرحلة التاريخية الحالية، وضعف المقاربة القمينة بالتفاعل مع قضايا الدولة والمجتمع والمواطنين. ولدت الحكومة الحالية ضعيفة بحكم مكوناتها وصراعاتها وحساباتها الداخلية والخارجية وأزمة الريادة داخلها وعدم قدرتها على التحكم في سفينة تدبير الشأن العمومي، خصوصا في زمن تتوالى فيه الأزمات والمطبات والعواصف دون توفف.

من جهة أخرى فقدت الأحزاب دورها التأطيري بفعل أزمة النخب، وتوالي محاولات فرض قيادات ذات توجهات معينة وملائمة لرؤى سياسية غير واضحة، وعدم قدرة الكثير منها على مواكبة التطورات السوسيولوجية والديمغرافية والثقافية التي يعرفها المجتمع. هذا في وقت خفت فيه صوت المجتمع المدني، وعوض ذلك، ظهرت بدائل جديدة متمثلة في تنسيقيات محلية، ومجموعات شبابية وسكانية منظمة، وتجمعات افتراضية على مستوى وسائل التواصل الاجتماعية، يقودها بحنكة وريادة مؤثرون يقرأهم ويتفاعل معهم عشرات الآلاف من المعجبين والتابعين والمتعاطفين والغاضبين.

هل أفل دور الأحزاب؟ هل يمكن لها إعادة تجديد نفسها ونخبها وهياكلها لتستدرك نفسها وتنخرط في الدينامية السوسيولوجية التي بدأت تفرز نخبا جديدة أكثر التصاقا بهموم الشعب وأكثر ابتعادا عن دواليب السلطة التقليدية؟ هل يمكن للأحزاب التقليدية أن تنافس هذه الوسائط التي تعبر عن انتظارات راديكالية تتمثل في إعادة توزيع الثروة، وتوظيف الشباب في الإدارة العمومية، وفرض ضرائب على الثروة، وإقرار الديمقراطية المباشرة، والحد من امتيازات الحكومة والبرلمان؟

قراءة سريعة للمشهد الحزبي تعطينا صورة لنخب حزبية هي في غالبيتها بعيدة عن القضايا المطروحة على مستوى الطبقات الشعبية المتضررة من غلاء المعيشة وتعثر إصلاح الصحة والتعليم وبطالة الشباب وبيروقراطية الإدارة وفساد النخب المحلية المنتخبة. الوسائل الكلاسيكية للتواصل والتعبئة السياسية والتوعية والتنظيم صارت في معظمها متجاوزة وغير صالحة لشباب وشريحة كبيرة من المجتمع تستعمل بدائل افتراضية ولغة جديدة وخطاب راديكالي بل وقيم متجددة قوامها التضامن والتعاضد ضد النخبة والحكومة والدولة والبرلمان والرأسمال.

بنى حزب العدالة والتنمية قوته الضاربة على سياسة القرب في الأحياء الشعبية الحضرية، معتمدا على شرائح عريضة من الطبقة الوسطى الدنيا والمتوسطة ومستعملا مقاربة إحسانية تنظمها شبكات عديدة تستعمل فضاءات جمعيات الأحياء والمجموعات الخيرية الصغيرة الغيرالمهيكلة ومعتمدا بشكل كبير على من يؤمون المساجد والتجمعات الصغرى والتي تداوم على فضاءات خاصة للتداول حول قضايا دينية أو اجتماعية أو هما معا وممارسة طقوس متعلقة بهما.

الشرخ الذي أحدثه "البلوكاج" على مستوى النخب كان له تأثير على مستوى القواعد؛ بل وأن تدبير الحكومة للأزمات المتوالية أبان عن قصور في النظر وتذبذب في المقاربة وتضارب في الرؤى، مما جعل "العدالة والتنمية" محط انتقادات عريضة من طرف العالم الافتراضي ورواد الوسائط الجديدة، وهو الحزب الذي كان يعرف زخما كبيرا من التعاطف خصوصا وأن خطابه الأخلاقي ضد الفساد واللوبيات كان يستهوي الكثير من الشباب والنخب المحلية. ما يسمى ب "الكتائب الإلكترونية" للعدالة والتنمية صارت هي كذلك مصدر نقد وانتقاد لمقاربة الحكومة وما ينظر إليه على أنه سوء تدبير للشأن العمومي وللأزمات.

من يقولون إن "العدالة والتنمية" على فوهة بركان أو على شفا حفرة من الانشقاق ربما مخطؤون، ولكن بريق هذا الحزب بدأ ربما يخفت وقدرته على تعبئة شرائح مهمة من المجتمع قد تتضرر وصورته على المستوى العالم الافتراضي نالت منها الانتقادات المتعددة. سوف لن يكون لهذا تأثير كبير على نتائج الانتخابات ولكن قدرة الحزب على أن يفرض آراءه ومقارباته كما كان الحال في السابق بدأت تتآكل وستستمر في التآكل إن لم يقم بتوفيق ذكي بين الآراء المتباعدة، خصوصا ما يتعلق منها بالدمقرطة ومحاربة الفساد والعلاقة مع الدولة ودور الدين في تحديد القيم المجتمعية المشتركة. تجديد الخطاب أساسي كذلك للخروج من التأرجح الدائم بين جاذبية المعارضة ورتابة الدفاع عن الأغلبية والتوجه الحكومي.

بني حزب "الأصالة والمعاصرة" على لاءتين أساسيتين: لا للأحزاب التقليدية التي تتوانى في تأطير المواطنين وراء الإصلاحات الكبرى؛ ولا للإسلاميين الدين يمارسون التقية للوصول الى السلطة وآنذاك بناء الدولة الإسلامية المنشودة. لهذا فهو أتى كبديل وكنقيض في نفس الوقت، وهمه لم يكن تطوير خطاب متجدد ولا إيديولوجيا ملائمة لقضايا المجتمع، ولكن إعادة هندسة الحقل السياسي والحزبي لمحاصرة الإسلاميين ولفرض توجه معين على الأحزاب الأخرى أن تتبناه على المدى الطويل لبلورة بديل حقيقي. الجمع بين شتات اليسار والليبراليين والأعيان تحت سقف واحد لم يعط الفرصة للحزب لبلورة هذا البديل ولا لتعبئة الرأي العام وراءه.

من نقط قوة الحزب قربه من دواليب السلطة ولكن هذه هي نقطة ضعفه كذلك، حيث كان من السهل على معارضيه أن ينعتوه ب"التحكم". وجود طاقات متعددة داخله أتت من مشارب مختلفة هو مصدر غنى وقوة ولكن انصهار هذه الحساسيات داخل تصور مجتمعي مفكر فيه بشكل ذكي لم يحصل بعد، حيث يظهر الحزب وكأنه جامع شتات من يناهضون الإسلاميين لا غير. قطع حزب "الأصالة" أشواطا لا بأس بها في الهيكلة والتنظيم وله امتداد قوي عبر التراب الوطني ولكن قوة الهياكل والجهات والتنظيمات الموازية تم تغييبه من أجل أجندات ذات بعد استراتيجي بعيدة عن هموم المواطنين اليومية.

يمكن لحزب "الأصالة والمعاصرة" أن يلعب دورا مهما في الساحة الحزبية شريطة أن يبتعد عن نزعة الهيمنة على الأحزاب الأخرى، وعن الرغبة في إعادة هندسة المشهد الخزبي والسياسي، وعن محاولة شيطنة "العدالة والتنمية." قد يقول قائل إنه إن فعل فسيفقد ماهيته وهويته؛ وهذا نسبيا صحيح ولكن هذا الحزب لا يمكن أن يعيش إيديولوجيا وسياسيا على مواجهة الآخرين دون أن يبلور خطابا خاصا به ودون أن يطبع مع الساحة السياسية كفاعل ضمن مجموعة من الفاعلين. وعملية إعادة النظر في أهداف الحزب والقيم التي يؤمن بها أساسية لعملية التطبيع هذه.

يستمد حزب الاستقلال هويته وقوته من تاريخه النضالي من أجل الاستقلال، ومن فكر رواده الذين أثروا على أجيال متعاقبة من المفكرين والساسة، ومن دفاعة المستميت على الثوابت الوطنية، ومن تجدره داخل جميع شرائح الشعبية ومن تجاربه المتعددة على مستوى التدبير الحكومي. عاش الحزب صراعا في السنوات القليلة الماضية كاد أن يجهز على وحدته ولكنه استطاع بذكاء جماعي من تجاوز الصعاب وانتخاب قيادة جديدة ومباشرة هيكلة ناجعة على المستوى المركزي والجهوي والمحلي (ورشة إعادة الهيكلة لا زالت مستمرة إلى وقتنا الحاضر). المرور إلى المعارضة بشكل رسمي أعطى للحزب إمكانية ممارسة دور قوة اقتراحية مسؤولة وهو ما أبان عنه عبر مقترح تعديل قانون المالية الحالي للتجاوب مع التطورات التي شهدتها الساحة السياسية في خضم أزمات الحسيمة وجرادة وزاكورة وموجة المقاطعة لبعض المواد كتعبير عن العضب الشعبي تجاه غلاء المعيشة وغلاء الأسعار.

غير أن الرهان الاستراتيجي بالنسبة لحزب علال الفاسي هو إعادة الروح للكتلة الوطنية كأداة للتنسيق بين الأحزاب الوطنية الديمقراطية في أفق الانتخابات القادمة وفي خضم استكمال البناء الديمقراطي وبناء دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات. الدور الريادي لحزب الاستقلال على هذا المستوى يأتي نظرا لنجاحه في إعادة الهيكلة وإفرازه لقيادة جديدة تعمل كفريق من أجل صون المكتسبات والتجاوب مع تطلعات المجتمع في غد أفضل. لكن إعادة صياغة عمل الكتلة الوطنية يقتضي دعم استعادة الفرقاء الآخرين--الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية-- لبريقيهما ودورهما كقوى يسارية متجدرة في عمق المجتمع وقواه الحية.

يعيش الاتحاد الاشتراكي أزمة حقيقية تتمثل في خفوت صوته كقوة لعبت دورا تاريخيا في طرح البدائل والأفكار الجريئة، وتشرذم مكوناته، وتراجع أدائه الانتخابي وضبابية تصوراته فيما يخص القضايا الكبرى للأمة خصوصا الدمقرطة والتجاوب مع تطلعات شرائح عريضة فيما يخص الشغل والعيش الكريم، وكذا بناء دولة المؤسسات ودولة الحق والقانون. ولا يمكن للاتحاد الاشتراكي أن يكون فاعلا رئيسا في العمل التنسيقي الوطني دون تجديد حقيقي لخطابه وتحقيق التصالح بين مكوناته وإعادة بناء هياكله الداخلية والموازية ودمقرطة حقيقية لمسلسل اتخاذ القرارات داخل ذات الهياكل ونفض غبار التبعية عنه.

من جانبه، يبقى حزب التقدم والاشتراكية فاعلا أساسيا على مستوى الساحة السياسية رغم المتاعب التي حصلت له جراء تقاربه مع "العدالة والتنمية." ولكن حزب علي يعتة يمر بمرحلة دقيقة تستوجب من قيادته ونخبه طرح أسئلة حول حقيقة انتمائه لقوى اليسار ومدى تجاوبه مع التطورات التي يعرفها المجتمع ومدى ملاءمة تحالفاته وتوجهاته الحالية مع مبادئه وهويته وتاريخه النضالي. إعادة هيكلة الحزب وتقوية مؤسساته من شأنها أن تعطيه حضورا أقوى وانخراطا أكبر في قضايا المجتمع الملحة.

دون هذه الإصلاحات الجريئة على مستوى أحزاب الكتلة الوطنية، لا يمكن لهذه الأخيرة أن تلعب دورا طلائعيا في تجديد المشهد الحزبي في أفق تجاوبه مع انتظارات وتطلعات الشعب. ودون لعب حزب الاستقلال دورا رياديا في أفق تعبيد الطريق لبلورة خارطة طريق للعمل المشترك، تتضمن إصلاحات داخلية على مستوى كل مكون، سوف لن يكون لهذه النسخة المستقبلية لعمل كتلة التنسيق الوطني معنى أو قوة ضاربة تستطيع تعبئة الحساسيات المجتمعية الوطنية والديمقراطية والتقدمية وراء تصور مستقبلي واضح المعالم.

يطرح كذلك على هذه الأحزاب مجتمعة، بالإضافة إلى "العدالة" و "الأصالة" (خصوصا في صيغتها المتجددة المستقبلية) مقولة "الكتلة التاريخية" (كما استمدها البعض من غرامشي وطرحوها في محطات معينة في السنوات القليلة الماضية). هذه الجبهة العريضة من المكونات المختلفة التوجهات والحساسيات من أجل مواجهة نزعة السيطرة أو الهيمنة أو التراجع عن المكتسبات الديمقراطية ضرورية في الفترة الحالية ولكن توفر شروط عملها ونجاحها لم تنضج بعد، خصوصا في غياب الابتعاد عن منطق اعتبار الأحزاب أخرى أعداء للوطن أو للمجتمع (كلنا يذكر التهم المتبادلة بين "العدالة" و"الأصالة" في هذا الإطار) وتحديد تصور محدود في الزمن يتضمن أهداف ومؤشرات حول استكمال البناء المؤسساتي والوصول الفعلي إلى دولة الحق والقانون والتجاوب الناجع مع انتظارات الشعب فيما يخص الشغل والعيش الكريم والتعليم والصحة والولوج إلى الإدارة والخدمات.

على الجانب الآخر، على مستوى أحزاب اليمين (أو أحزاب الإدارة كما يحلو للبعض تسميتها)، نجد نفس شروط الأزمة والتشرذم وضحالة الأفكار وسيادة منطق الزعامة والفردانية وغياب الديمقراطية الداخلية، مع تفاوتات من حزب لآخر. عرف التجمع الوطني للأحرار دينامية جديدة مع الرئيس الحالي تمثلت في الرفع من وتيرة الهيكلة ووضع التنظيمات الموازية وتعبئة فاعلين محليين، وتوسيع القاعدة لتشمل الشباب والمرأة والفلاحين والمقاولين الصغار والنخب المحلية، بالإضافة إلى روافده التقليدية، الأعيان والمقاولون الكبار وأصحاب الاقتصاد والمال. التحول الدي يعرفه الحزب هو من قوة انتخابية لا يستهان بها منذ خمسين سنة إلى حزب مهيكل ومتواجد على مستوى جميع الجهات، فاعل وحاضر في الساحة السياسية خارج فترة الانتخابات. هذا رهان لم يربحه الحزب بعد ولكنه أساسي لكي يستطيع أن يضاهي عمل أحزاب منظمة بشكل محكم مثل العدالة والتنمية وحزب الاستقلال.

رهانات أخرى تتمثل في وضع قواعد الدمقرطة الداخلية وعدم الاعتماد فقط على كارزمية قادته، تجاوز منطق إعادة هندسة المشهد السياسي رغما عن إرادة المواطنين المعبر عنها عبر صناديق الاقتراع، وفتح نقاش موضوعي حول علاقة السياسة برجال الأعمال والتي يطرحها الشارع بإلحاح خصوصا في زمن يتسم بالمقاطعة لمنتوجات معينة لأسباب اجتماعية وسياسية في نفس الآن. لا يقتضي هذا النقاش وضع حد لهذه العلاقة ولكن توضيحها ووضع قواعد لكي يمارس أصحاب الأعمال حقهم الدستوري في ممارسة السياسة بعيدا عن الشبهات الحقيقية والمفبركة.

الاتحاد الدستوري يواجه أزمة هوية منذ سنوات ودخوله الحكومة الحالية وإدماج فريقه وفريق التجمع الوطني لم يساعده على تخطي الأزمة بل وزاد في غليانه الداخلي وخلق عند قادته ونخبه قلقا متزايدا وطرح أسئلة وجودية لدى مناضليه. دون فتح نقاش عميق وعريض حول هوية الحزب ودوره وتاريخه ووجوده سيكون مآل حزب المعطي بوعبيد إما الأفول أو الذوبان الصامت في غياهب حزب التجمع وكلا السيناريوهين سيجهز على عقود من البناء والنضال (قريبا من الإدارة ومراكز القرار). الحركة الشعبية بدورها تعيش على وقع اندماج مكوناتها العسير منذ أكثر من عقد من الزمن. تواري أحرضان عن الأنظار خلف فراغا مهولا وارتباكا لدى المناضلين، مما جعل عملية تجديد القيادة والدمقرطة الداخلية وعصرنة الحزب وإعادة صياغة أهداف الحزب حول محوري الأمازيغية والعالم القروي أشياء شبه مستحيلة.

هكذا نرى أن تجديد الحقل الحزبي ممكن، والإمكانيات الفكرية لتحقيق ذلك متوفرة. ولكن التحديات كبيرة كذلك. وعلى الأحزاب أن تستعمل ذكاءها الجماعي لإحداث نقلة نوعية تضمن استمرار وجودها في زمن التواصل الرقمي وبروز وسائط جديدة أكثر فعالية وأكثر تواجدا على الساحة السياسية والاجتماعية. شروط التجديد الحزبي في المغرب هي: الابتعاد عن منطق الهيمنة ومحاولة إعادة هندسة الحقل السياسي بطريقة قيصرية وحسب تصورات ايديولوجية معينة من طرف هذا الحزب أوذاك؛ خلق تحالفات جديدة لها معنى إيديولوجي وسياسي تساعد المواطن على الاختيار؛ وضع الإمكانيات المادية رهن إشارة الأحزاب للولوج إلى العالم الافتراضي من بابه الواسع وتعبئة الأغلبية التي لا تصوت ولا تشارك ولكنها نشيطة على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي؛ وضع تصور مرحلي لدمقرطة حقيقية للحياة السياسية ولبناء دولة المؤسسات متفق عليها من طرف الجميع. كل هذا ممكن، وهذا ما ينتظره الشعب! شريطة أن تتوفر الإرادة لدى النخب الحزبية لكي تكون على موعد مع التاريخ ومع قضايا الوطن ومع تطلعات الشعب.