تحليل

حزب الله والإخوان المسلمون: اختلاف المذهب ووحدة المنهج

عبدالحق الصنايبي

إن رصد مؤشرات تقاطع الإيديولوجية الإخوانية مع عقيدة حزب الله تجد ما يبررها في العديد من نقاط التلاقي الفكري والعقدي عند التنظيمين، مما يفسر، عندنا، التطابق على مستوى المواقف المعلنة في الأعوام الأخيرة، والذي وصل إلى حد إعلان المرشد السابق للإخوان محمد مهدي عاكف، في مؤتمر صحافي عقده في نقابة الصحافيين، أن "الإخوان على استعداد أن يرسلوا أكثر من عشرة آلاف مقاتل لكي يقاتلوا مع حزب الله في جنوب لبنان". وحتى حين ظن البعض أن عبارة مهدي عاكف هي فلتة من فلتات لسانه الكثيرة أطلقها دون أن يدري أثرها، خرج علينا عصام العريان، أحد القياديين المركزيين في الجماعة، على قناة "المنار" الشيعية ليقول: "باستطاعة الإخوان إرسال أكثر من مائة ألف مقاتل للوقوف كتفًا بكتف مع إخوانهم في حزب الله".

وبالعودة إلى السياقات التاريخية للتحليل، نجد أن حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، تأثر بمجموعة من التيارات الدينية الباطنية والتنظيمات السرية العالمية قبل أن تتبلور لديه فكرة تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" سنة 1928م. وهنا يقول علي عشماوي، مؤسس تنظيم 1965 أو ما عرف إعلاميا بـ "تنظيم سيد قطب" في كتابه "التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين": "لقد درس الإخوان جميع التنظيمات العالمية حين حاولوا بناء النظام الخاص، وقد تأثروا جداً بالفكر الباطني في التاريخ الإسلامي، حيث كانت التنظيمات العباسية والعلوية والشيعية، وما صاحبها من فرق سريّة، مصدراً أساسيّاً تم الرجوع إليه ودراسته والاستنارة بالأفكار الحركية في كل تنظيم على حدة، وفيها أيضا كانت هناك وقفة شديدة أمام فرقة الحشاشين أتباع حسن الصباح"، وكان الانبهار من وصولهم إلى حد الإعجاز في تنفيذ آليات السمع والطاعة، وكيف كان الأفراد يسمعون ويطيعون حتى لو طلب منهم قتل أنفسهم" (ص: 8).

"الإمامة" بين حزب الله والإخوان

لن نتطرق هنا إلى الإمامة من وجهة نظر عقدية، على اعتبار أنها تبقى من أصول المعتقد عند الشيعة، وركنا أصيلا من أركان الإيمان. غير أن المذهب الصفوي ومن يسير في فلكه سيعمد إلى تطويع هذا المبدأ، المختلف حوله أصلا، لينتج لنا مبدأً آخر أطلق عليه "ولاية الفقيه"، وهي الولاية التي تقوم مقام "صاحب الزمان" إلى حين رجوعه من غيبته الكبرى. ويعتبر الولي الفقيه "نائب" المهدي المنتظر والقائم مقامه في تدبير شؤون العالم.

لكن السؤال المطروح: ما علاقة الطرح المرتبط بـ"ولاية الفقيه" بالأطروحة الإخوانية التي تدعي انتماءها إلى مدرسة أهل السنة والجماعة، والتي تجعل من الإمامة فرعا من فروع العقيدة لا أحد أصولها؟

إن الجواب عن هذا السؤال يحيلنا على الصورة التي رسمها الإخوان عن "إمامهم" حسن البنا، بل الصورة التي رسمها هو عن نفسه، والتي ترفعه إلى منزلة شبيهة بمنزلة الإمام المعصوم، حيث يعتبرون إمامهم ملهماً بَلَغَ من درجات الكمال الخِلقي والخُلقي ما جعلهم يزعمون بأنه لم يقع في خطأ قط في حياته، حسب ما صرح به نجله أحمد سيف الإسلام حسن البنا في حوار له بجريدة "المصري اليوم".

إن فكرة الإمامة كانت دائما حاضرة في فكر الإخوان حتى أنهم أطلقوا على البنا لقب "الإمام"، ودفع تأثر البنا بالشيعة الإمامية إلى أن يرى الإمامة في نفسه، ويرى العصمة في عمله، وتسرب هذا الفكر إلى جماعة الإخوان حتى أصبحت كأنها أحد أفرع الشيعة وسط المجتمعات السنية.

يروي حسن البنا في "مذكراته" ما يفيد هذا الطرح، فيقول في الصفحة 18: "رأيت فيما يرى النائم أنني ذهبت إلى مقبرة البلد فرأيت قبرا ضخما يهتز ويتحرك، ثم زاد اهتزازه واضطرابه حتى انشق فخرجت منه نار عالية امتدت إلى عنان السماء وتشكلت فصارت رجلاً هائل الطول والمنظر واجتمع الناس عليه من كل مكان فصاح فيهم بصوت واضح مسموع وقال لهم: أيها الناس: إن الله قد أباح لكم ما حرم عليكم، فافعلوا ما شئتم. فانبريت له من وسط هذا الجمع وصحت في وجهه: "كذبت" والتفتُّ إلى الناس وقلت لهم: "أيها الناس هذا إبليس اللعين وقد جاء يفتنكم عن دينكم ويوسوس لكم فلا تصغوا إلى قوله ولا تستمعوا إلى كلامه". ويقول في موقع آخر: "لا زلت أذكر أنه ليلة امتحان النحو والصرف، رأيت فيما يرى النائم أنني أركب زورقاً لطيفاً مع بعض العلماء الفضلاء الأجلاء يسير بنا في نسيم ورخاء على صفحة النيل الجميلة، فتقدم أحد هؤلاء الفضلاء، وكان في زي علماء الصعيد، وقال لي: أين شرح الألفية لابن عقيل؟ فقلت: ها هو ذا. فقال: تعال نراجع فيه بعض الموضوعات، هات صفحة كذا، وصفحة كذا، لصفحات بعينها. وأخذت أراجع موضوعاتها حتى استيقظت منشرحاً مسروراً. وفي الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات، فكان ذلك تيسيرا من الله تبارك وتعالى، والرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن والحمد لله رب العالمين" (ص: 45).

هذه الإيحاءات حاول من خلالها البنا إضفاء هالة من القداسة على شخصه، والإيحاء بمظاهر العناية الإلهية والرعاية الربانية. ويمكن للقارئ الكريم، من خلال ما تقدم، أن يستشعر بعض الأسس الإمامية التي تشربها حسن البنا من المذهب الجعفري وأسقطها على البنية السلوكية لأتباعه.

من الانتشار القاعدي إلى تشكيل الأجنحة العسكري

في هذا السياق، وفي الوقت الذي عمل المرجع الشيعي، موسى الصدر، منذ وصوله إلى لبنان، على استثمار الأوضاع المعيشية المزرية للطائفة الشيعية من خلال رفعه شعار "الحرمان" وتأسيسه سنة 1974 حركة "المحرومين"، التي ستكون المفرخة التي سينشئ منها الصدر الجناح العسكري لحركته، ممثلا في "أفواج المقاومة اللبنانية"، المعروفة اختصارا بـ"حركة أمل"، والتي ستكون النواة الأساسية لتنظيم حزب الله، سيعمل حسن البنا، هو الآخر، بعد اتساع قاعدة أتباعه، على تأسيس فرقة "الجوالة"، لتكون المفرخة التي سيُنشَأ من خلالها "التنظيم الخاص" لجماعة الإخوان، وهو الجناح العسكري للجماعة الذي سيتورط، ابتداء من الأربعينيات، في سلسلة من جرائم الاغتيال التي استهدفت رموز الحكومة والقضاء وكذا العديد من المعارضين السياسيين.

بين الجمهورية الإسلامية العالمية و"أستاذية العالم"

"مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره، كوننا مؤمنين عقائديين، هو مشروع دولة إسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى، التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الوليُّ الفقيه الإمام الخميني" حسن نصر الله.

لم يعد سراً الطموح التوسعي لإيران من أجل السيطرة على جميع الدول العربية والإسلامية في أفق تحقيق حلم إخضاع العالم ككل لسلطة الولي الفقيه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وتُجسد هذه الرؤية "الكونية" مجموعة من الأحاديث التي "تُنسب" إلى الأئمة المعصومين، يُروى في أحدها: "إذا تناهت الأمور إلى صاحب هذا الأمر، رفع الله تبارك وتعالى له كلَّ منخفض من الأرض، وخفّض له كلَّ مرتفع، حتّى تكون الدُّنيا عنده بمنزلة راحته، فأيّكم لو كانت في راحته شعرة لم يبصرها". (بحار الأنوار، ج: 52، ص: 126).

الطرح نفسه نجده، إلى حد بعيد، عند حسن البنا، الذي نادى بعالمية الدعوة وآمن بها، واعتبرها قطب الرحى في بنائه الفكري والعقدي، حيث يقول في مذكراته: "أما العالمية أو الإنسانية، فهي هدفنا الأسمى وغايتنا العظمى وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح، والدنيا سائرة إلى ذلك لا محالة، وهي خطوات، وإن أبطأ بها الزمان، فلا بد أن تكون، وحسبنا أن نتخذ منها هدفاً، وأن نضعها نصب أعيننا مثلاً، وأن نقيم هذا البناء الإنساني، وليس علينا أن يتم البناء، فلكل أجل كتاب".

من هنا نرى أن إخضاع العالم لحكم الإخوان هو أصل البناءات الفقهية للجماعة، واللبنة التي يختمون بها حلم التمكين للوصول إلى ما يصطلح عليه في أدبيات الإخوان بـ "أستاذية العالم".

التقية السياسية

على هذا المستوى يصعب ضبط التوجه السياسي والعقدي لجماعة الإخوان وحزب الله على السواء. فحزب الله يزعم أنه حزب وطني يملك أجندة وطنية ويملك سلاحا موجها نحو الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين، في الوقت الذي نرى أن هذا التنظيم الإرهابي قام بتوجيه سلاحه نحو كل من عارضه، بل وجهه إلى الدولة اللبنانية من خلال استهداف عناصرها ورموزها، ووصل إلى حد احتلال عاصمتها السياسية بيروت، وإملاء شروطه على باقي الفرقاء السياسيين، كما ذكرنا سابقا.

إن حزب الله، الذي ينتمي إلى المذهب الجعفري الاثني عشري، يرى في "التقية" ليس استثناء في تعامل المسلم مع الآخر في ظروف القهر والإكراه، وإنما يعتقد أنها جزء من العقيدة يمكن استعمالها كلما كانت تخدم الأهداف العقدية والسياسية للتنظيم.

وعلى النهج نفسه تبنى الإخوان "عقيدة التقية" منذ نشأتهم. ففي الوقت الذي كان حسن البنا ينادي بأن جماعته دعوية واجتماعية فقط، كان "المرشد" يخطط ليل نهار من أجل تحقيق الدولة الإخوانية، التي جعلت حدودها هي حدود العالم أجمع، فيقول: "ترمي (أي الدعوة الإخوانية) إلى تحرير كل شبر في الأرض يردد لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأخيراً نشر الإسلام ورفع راية القرآن في كل مكان حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" (مذكرات الدعوة والداعية، ص: 307).

استخدم الإخوان التقية كسلاح للتوغل والانتشار، وأعلنوا الولاء للملك فؤاد "تقيّة"، وتحالفوا معه من أجل ضرب باقي القوى السياسية، والانفراد بالمؤسسة الملكية في أفق توجيهها، ومن ثم تحييدها والقضاء عليها. وهذا ما كان، حيث إنه في الوقت الذي كان حسن الهضيبي في سراي عابدين مع الملك فاروق يعلن له الولاء وبداية عهد جديد في العلاقة بين القصر والإخوان، كان القيادي الإخواني صالح أبو رقيق وصلاح شادي ومنير الدلة مع جمال عبدالناصر يخططون للانقلاب على الملك، وهو ما حدث فعلا في "انقلاب" الضباط الأحرار ليلة 22/23 يوليوز 1952.

هذا كان حال الإخوان مع رأس النظام ورموز الدولة، بل وصلت "الوقاحة السياسية" بالإخوان إلى وصف رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا، الذي كان عميلا للإنجليز بامتياز وقام بالتنكيل بالشعب المصري، بأنه الرجل الصالح الذي يُتبرك باسمه من خلال تلاوة القرآن الكريم، حيث يذكرون قوله تعالى: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيّاً".

ومن مظاهر التقية عند الإخوان قيامهم بإنكار جميع جرائم الاغتيال والتفجير التي قامت بها الجماعة، رغم القرائن القوية التي كانت تورطها في هذه العمليات الإرهابية، الشيء الذي دفع مرشد الإخوان، بعد محاصرته بالدلائل والحجج حول تورط أتباعه في حمام الدم في مصر، إلى إطلاق مقولته الشهيرة "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين"، في محاولة منه لتخفيف القبضة الأمنية على الجماعة.

اغتيال المعارضين

يظل سلاح اغتيال المعارضين من الأسلحة الثابتة في تعامل حزب الله والإخوان المسلمين مع كل من يعارضهم ولو بالقلم أو بالكلمة. ومن خلال الرجوع إلى كتابات القيادات الإخوانية من الصف الأول وأعضاء في مكتب إرشاد الجماعة، نكتشف كيف لجأ الإخوان إلى لغة القنابل والمسدسات من أجل حسم صراعاتهم السياسية مع باقي القوى أو مع رموز النظام في مصر وسوريا والجزائر وغيرها من الدول.

وعلى المنوال نفسه، لجأ حزب الله اللبناني إلى سلاح الاغتيالات من أجل حسم الصراع السياسي مع باقي الفرقاء، ويبقى أخطرها على الإطلاق اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق رفيق الحريري بتاريخ 14 فبراير 2005.

إن حصر نقاط الالتقاء بين مشروع الإخوان المسلمين ومشروع حزب الله يتطلب مجالا أكبر لتأصيلها ورصدها من جميع جوانبها وتمظهراتها، ويبقى المقال الذي نقدمه لقارئ هسبريس مدخلا للبحث والتنقيب بين تراب المخازن للوصول إلى حقيقة المشروع الإخواني، وكذا مشروع ولاية الفقيه، اللذين يعتبران، على الأقل في نظرنا، من أخطر مهددات الأمن القومي للعالمين العربي والإسلامي، دون أن نستثني بذلك المملكة المغربية، التي كانت ولا تزال هدفا استراتيجيا لتنظيمات الإسلام السياسي والجماعات التكفيرية على السواء.

*متخصص في حركات الإسلام السياسي واستراتيجيات الأمن القومي