تحليل

مشكلة العنوسة في المغرب وقضية التعدد

إدريس الكنبوري

يحاط موضوع تعدد الزوجات والعنوسة في المغرب، وفي البلدان العربية بوجه عام، بكثير من الصمت والخوف والتوجس. فالعنوسة أحد الموضوعات المسكوت عنها تماما، وحين يثار الحديث عنها أحيانا لا يكون ذلك إلا على سبيل استعراض الأرقام والبحث عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية، لكن من دون الاقتراب من اقتراح الحلول، لأن التفكير في الحلول يفترض أنه يؤدي بنا إلى المساس ببعض الطابوهات المحظور الحديث عنها علنا، لأسباب كثيرة. أكبر هذه الطابوهات تعدد الزوجات.

لكن دراسة حديثة لمؤسسة "فاميلي أوبتيميز" عن العنوسة في العالم العربي كشفت أن 60 في المائة من النساء المغربيات عوانس؛ ما يعني قرابة ثمانية ملايين امرأة. وهذا رقم مهول لأنه يشكل خمس سكان المغرب. وبالطبع يجب أن نضع بجانب هذا الرقم رقما آخر يتعلق بعدد العزاب في المغرب، وإن كان عدد هؤلاء يقل كثيرا في اعتقادي، رغم غياب المعطيات، بسبب ما نعرفه من تزايد الإناث مقابل الذكور في المجتمع بشكل عام. وقد صارت هذه الظاهرة ملحوظة في المغرب بشكل كبير خلال العقدين الماضيين على الأقل.

هذا رقم كبير بدون شك. إن ثمانية ملايين نسمة هي ساكنة بلد كامل في إفريقيا أو الشرق الأوسط، لا، بل إنه يزيد كثيرا على عدد سكان دول الخليج مجتمعة، ما عدا السعودية. ولكن هذا الرقم لا يثير نقاشا وطنيا في المغرب، بل لا أحد على الإطلاق يهتم به خارج الاهتمام الظاهر بالأرقام والإحصائيات، وهناك صمت كبير حوله، ليس فقط بسبب حساسيته الاجتماعية والسياسية والدينية، بل أيضا بسبب غياب القدرة على التعامل مع مشكلة من هذا الحجم. إننا نخوض النقاش والجدل في أمور كثيرة كل يوم، ولكن في النهاية يتبين لنا أن هذا النقاش لا يهم سوى فئات صغيرة الحجم في بلادنا، بينما نغض الطرف عن ظاهرة كبرى كالعنوسة، تذهب ضحيتها ثمانية ملايين امرأة.

تشكل العطالة أحد الأسباب الرئيسية وراء استفحال ظاهرة العنوسة في المغرب. وترجع العطالة ــ كما هو معروف ــ إلى غياب سياسات اجتماعية تستهدف الشباب القادر على الزواج والإنجاب. ولكن العطالة في حد ذاتها ليست السبب المباشر؛ إذ إن معدلات التشغيل لا تعطي الأولوية لجنس دون آخر، فقد تكون النساء الشريحة الأكبر من حيث معدل التشغيل. لكن العوائد الاجتماعية لا تجعل المرأة العاملة تبحث عن زوج، بل تعطي للذكر العامل حق البحث عن زوجة.

وهذا التفاوت بين الجنسين في مجال الشغل ينعكس بالضرورة على دينامية التزاوج؛ لذلك نلاحظ أن معدلات الزواج تزيد في المجالات القروية عنها في المجالات الحضرية، لأن النشاط الاقتصادي يميل لصالح الذكور على حساب الإناث، مما يؤثر على دينامية التزاوج، هذا طبعا علاوة على بطء التحولات الثقافية والاجتماعية في القرى والبوادي مقارنة بتسارعها في الحواضر حيث ما تزال مفاهيم الزواج والأسرة والإنجاب مستقرة نسبيا ولم تخضع للتحولات التي حصلت في المدينة.

لقد كانت ظاهرة العنوسة واقعا اجتماعيا في كل وقت، غير أنها لم تكن بالحجم الكبير الذي هي عليه اليوم. ففي الماضي كانت العنوسة ظاهرة محدودة لسببين: الأول هو الاقتصاد المنزلي الذي كان يتيح للفرد بناء أسرة صغيرة داخل الأسرة الكبيرة، والثاني هو تعدد الزوجات الذي كان أحد العوامل المساعدة على الحد من الظاهرة. لكن مع حصول التحول في البنيات الاجتماعية والعائلية، وظهور الأسرة النووية، وتراجع عادة تعدد الزوجات بسبب عوامل دينية واجتماعية وحتى سياسية، باتت العنوسة تشكل ظاهرة اجتماعية حقيقية أعلى حدة.

لن أخوض في عامل البطالة والأسباب الاقتصادية التي تقف وراء العنوسة والعزوبة، فهذا مما يجري الاتفاق حوله، لكني سأخوض في موضوع يبدو للكثيرين واحدا من المحظورات التي لا ينبغي التفكير فيها، وهي تعدد الزوجات، باعتباره واحدا من الأسباب وراء العنوسة.

وحديثي هنا عن تعدد الزوجات هو حديث في المبدأ لا في الحيثيات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية التي تحول دونه اليوم. إنني أدرك جيدا أن المعضلة التي نعيشها في المغرب في السنوات الأخيرة ليست مشكلة التعدد، بل هي مشكلة الزواج من الأصل؛ ذلك أن حالات الطلاق أصبحت بالحجم الذي يثير التساؤلات، والأمر ليست له علاقة فحسب بمدونة الأسرة التي يسجل عليها المتخصصون ملاحظات كبرى، بل مرتبط أيضا بالتحولات الثقافية والمجتمعية التي انعكست على مفاهيم الأسرة والعلاقات بين الزوجين وبينهما والأبناء، فأصبحت العوامل التي تدعو إلى التفكك أكبر من تلك التي تدعو إلى التماسك الأسري. وهكذا فالقضية اليوم ليست قضية تعدد، بل قضية الأسرة الأحادية بالدرجة الأولى.

لكن بما أن الزواج اليوم تنعكس عليه التحولات الاجتماعية والقيمية والثقافية، فمن باب أولى أن تنعكس تلك التحولات على مفهوم التعدد ذاته. صحيح أن الأسرة المغربية لم تعد قادرة على تقبل فكرة التعدد من أساسها، نظرا إلى تلك التحولات المشار إليها، لكن الكثيرين يفكرون فيها من دون الجرأة على التعبير عنها. وباستثناء الأوساط السلفية، التي يظهر أن لديها ثقافة مبدئية تتقبل التعدد من منطلقات شرعية، بالرغم مما يسجل على ذلك التعدد من شطط وتجاوز، فإن الكثيرين يترددون في طرحها لأسباب اجتماعية واقتصادية وعائلية.

إن قضية التعدد ليست قضية بسيطة يمكن طرحها على بساط النقاش المجتمعي كما تطرح القضايا الأخرى، فهي قضية مرتبطة بالوعي الفردي والجماعي في المجتمع وبحجم القيم السلوكية السائدة فيه، ومن بينها قيمة التضامن. وبكلمة واحدة، هي قضية مرتبطة بـ"باراديغم" مغاير لذلك الذي يسود اليوم.

والباراديغم هو التصور العام أو شبكة المفاهيم التي يتحرك في إطارها الفرد والمجتمع. ولخلق شبكة مفاهيم جديدة يتطلب الأمر حصول تحولات على قدر كبير من الأهمية وعلى مدى زمني طويل. ولأضرب مثلا على ذلك، فإن بعض عناصر شبكة المفاهيم التي انتشرت في أوروبا على سبيل المثال في أعقاب الثورة الفرنسية، تطلبت ما يزيد على قرن من الزمن، مثل الحرية والفردانية؛ إذ لم تكن أي من المؤسسات الموجودة مستعدة لقبول شبكة المفاهيم تلك، سواء الكنيسة أو الأسرة أو الدولة.

ولنأخذ مثلا آخر: لقد دعا الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى تحرير العبيد والمساواة بين البيض والسود، لكن ذلك لم يحصل لأن المجتمع لم يكن قد طبع مع شبكة المفاهيم الجديدة التي يندرج فيها مفهوم التحرر، وتطلب الأمر انتظار ما يزيد على قرن كامل، إلى الستينات من القرن العشرين مع مارتن لوثر، لكي تحصل تلك المساواة بين البيض و"الملونين".

تأسيسا على ذلك، لا يشكل مفهوم التعدد جزء من شبكة المفاهيم السائدة في المجتمعات العربية، فقد تم إخراجه من هذه الشبكة منذ زمن طويل. وأنا أغامر بالقول هنا إن رواد الإصلاح الأوائل في العالم العربي أخطؤوا إذ لم يضعوا هذا المفهوم ضمن حيز التداول المقبول في إطار مشروعهم للإصلاح الأسري والمجتمعي، وساهموا بشكل مباشر في تحييده وفي إلقاء ظلال من الشك حوله انطلاقا من تأصيلات دينية مؤسسة على وقائع مجتمعية.

هناك سببان رئيسان وراء هذا التحييد لمفهوم التعدد لدى هؤلاء. السبب الأول أن قضية تعدد الزوجات شكلت واحدة من القضايا الكبرى التي كانت أوروبا تُشنع بها على العرب والمسلمين. لا يخفى أن الأوروبيين كانوا يطعنون في الإسلام من مداخل عدة بينها مدخل التعدد نفسه، وطعنوا في السيرة النبوية بسبب هذه القضية، واعتبروا أن تعدد الزوجات من ثغرات الدين الإسلامي. لم ينظر هؤلاء بالطبع إلى الحريم الذي كان سائدا في أوروبا طوال القرون الماضية، وإلى نساء الأباطرة الذين كانوا بالمئات، واستغلال المرأة بطريقة منافية للتحضر. لقد فصلت سيمون دوبوفوار جيدا في هذا الموضوع في الجزء الثاني من كتابها "الجنس الثاني"le deuxième Sexe)) الصادر عام 1949.

أما السبب الثاني فهو مرتبط بالتجاوزات التي كانت تحصل باسم التعدد في المجتمعات العربية. ومع ذلك، ينبغي القول إن هؤلاء عندما طرحوا فكرة منع التعدد كان ذلك في ظروف اجتماعية تطبعها المحافظة وسيادة القيم الأخلاقية التي كانت تحفظ للمرأة كرامتها، والكرامة هنا بمعنى العرض لا أقل ولا أكثر.

لقد دعا محمد عبده على سبيل المثال إلى منع التعدد بقانون في نهاية القرن التاسع عشر، وهو كان ينظر إلى سلبيات التعدد الناتجة عن التطبيق في زمانه، لا إلى سلبيات التعدد الناتجة عن عدم التطبيق كما هو الحال اليوم.

الأمر نفسه يمكن قوله عن التونسي الطاهر حداد الذي توفي في الثلاثينات من القرن الماضي. أما علال الفاسي فهو حالة فريدة. فالرجل طالب بمنع التعدد بسبب تجربة شخصية؛ ذلك أنه بعد نفيه إلى الغابون كتب إلى زوجته يخيرها بين البقاء في عصمته أو الطلاق منه والزواج بغيره نظرا لظروفه الخاصة في المنفى الذي قد يطول، لكن رفضها جعله يتبنى فكرة منع التعدد، فغلب ميوله الشخصية على الموقف العلمي الذي يجب أن يُتخذ؛ إذ ليس من الاجتهاد في الإسلام التقييد المطلق لمباح أو رخصة.

لكن المشكلة التي تطرح هي في تفسير مواقف هؤلاء المصلحين من التعدد. هناك رأي سائد يرد تلك المواقف إلى فهم معين للنصوص القرآنية التي تتحدث عن صعوبة العدل بين الزوجات، بناء على الآية "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". لكن القضية أن مواقف هؤلاء لم تكن مبنية على فهم للنصوص القرآنية، بل كانت مبنية على الخبرة الاجتماعية وإساءة استعمال حق التعدد، بمعنى أنهم لم يكونوا ضد التعدد كرخصة، لأنهم كانوا يدركون أنها كذلك، بل دعوا إلى منعها لأسباب تتعلق بسوء التطبيق.

يمكننا تشبيه هذا الأمر ببعض اجتهادات عمر بن الخطاب مثلا، فعندما أوقف الحد عام الرمادة لم يفعل ذلك لأنه يرفض أمرا منصوصا عليه، بل لأن الوقائع الاجتماعية تمنعه مؤقتا.

تطرح قضية العنوسة إشكالية أخلاقية وفكرية وفلسفية على الفكر النسواني في العالم العربي. تُعرف النسوانية بوصفها خطابا دفاعيا عن المرأة، خطاب يتبنى حقوقها: حق الشغل وحق المساواة مع الرجل أمام القانون وحق التصرف في أملاكها...إلخ.

ولكن عند التأمل سوف نجد أن فهم هذه الحقوق لا يبتعد كثيرا عن فهم حقوق الرجل، أي إن هناك إلحاقا للمرأة بالرجل. إن هذه هي فلسفة الحركة النسوانية في العالم الغربي، وهي الفلسفة نفسها التي نادت بها سيمون دوبوفوار مثلا، حين اعتبرت أن أقصى تصور للحرية عند المرأة هو أن تحصل على الحرية نفسها التي للرجل.

ولكن حق الاعتراف بالأنوثة لا يوجد له مكان ضمن هذه الحقوق، أي الحق في بناء أسرة والحق في الأمومة. لا توجد أنثى لا تحلم بالأمومة، بل إن هذا الحلم يتجاوز بكثير حلم الرجل بالأبوة، وهذا أمر طبيعي بسبب ما أودع في نفسية المرأة بحكم الخلقة والطبيعة، الذي من مظاهره ميل الأبناء إلى الأمهات أكثر من الآباء.

إن رقم ثمانية ملايين عانس في المغرب يستدعي اليوم التفكير الجدي في معضلة الزواج، في أفق إيجاد الحلول العملية التي تتيح لهؤلاء بناء أسرة. وإذا كان التعدد ليس من ضمن شبكة المفاهيم اليوم، فإن هناك شبكة مفاهيم أقامتها الدولة الحديثة في وثيقتها الدستورية التي توفر مجموعة من الحقوق. من شأن تفعيل هذه الحقوق ووضع سياسات اجتماعية أن يسمح لعدد كبير من هؤلاء العوانس بالخروج من وضعيتهن الحرجة، قصد ضمان أحد الحقوق الكبرى للمرأة وهو حقها في الزواج، الذي ينبغي أن يدخل حيز الحقوق النسائية.

إنها أفكار لنقاش مجتمعي مفتوح.