تحليل

العدالة الاجتماعية والمجالية كمدخل لبناء النموذج التنموي الوطني

هشام مدعشا*

تعتبر العدالة المجالية مدخل أساسيا لإحقاق العدالة الاجتماعية لما تضمنه من توزيع متوازن ومتكافئ للتقسيم الترابي، والاستثمار والاستفادة المتوازنة مما يختزن في بلد من البلدان من ثروات طبيعية وطاقات بشرية. وجدير بالذكر الأهمية المركزية للعدالة الاجتماعية في ترسيخ الديموقراطية ودولة القانون وتحقيق الأمن والاستقرار والاطمئنان، كما تؤكد كل التجارب الديموقراطية الناجحة التي جعلت من تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية أساسا حاسما في توطيد المسار الديموقراطي وتحقيق التنمية المستدامة.

وإذا كان من المسلمات التي عليها إجماع اليوم بين مختلف الفاعلين ، في الحالة المغربية، وفي مقدمتهم المؤسسة الملكية، هو محدودية النموذج التنموي الحالي وبلوغه مداه من زاوية آثاره على العدالة الاجتماعية والمجالية. لذلك فإن النموذج التنموي المغربي الذي هو اليوم موضوع نقاش عمومي في أفق إعادة النظر فيه وبلورة نموذج من المفروض أن يتأسس على العدالة الاجتماعية وعلى ضمان فعلية الولوج إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وعلى المساواة بين الجنسين، وعلى إيلاء الأولوية القصوى للفئات الهشة وللإدماج الاقتصادي والاجتماعي للشباب عبر التكوين والتشغيل وإيجاد حلول عملية لمشاكلهم الحقيقية، وخاصة في المناطق القروية والجبلية والأحياء الهامشية والفقيرة. وهي أسس لن تجد تجسيدها الواقعي إلا عبر هدفين متلازمين ومترابطين ويتجسدان في الحد من الفوارق الطبقية ومعالجة التفاوتات المجالية.

وفي الحقيقة إن الإقرار بمحدودية النموذج التنموي الوطني وعجزه ليس وليد اللحظة الحالية بل وقفت عنده العديد من التشخيصات والدراسات والتقارير الوطنية من قبيل تقرير الخمسينية وتقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وتقارير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي والمندوبية السامية للتخطيط وغيرها...، والتي تشكل كلها مداخل أساسية لإعادة بناء نموذج جديد للتنمية تمكن البلاد من إنتاج الثروة وتجاوز محدودية واختلالات النموذج التنموي القائم. مما يقتضي فحص وتحليل وتقييم وتحيين مجمل التوصيات والمقترحات التي جاءت في تقارير المؤسسات الدستورية والهيئات الوطنية.

وفي إطار النقاش العمومي الذي تعرفه الساحة الوطنية بخصوص النموذج التنموي الوطن لمغرب الغد، توجت أشغال المنتدى البرلماني الدولي الثالث للعدالة الاجتماعية المنظم، من طرف مجلس المستشارين، خلال يومي 19 و 20 فبراير الماضي بالعديد من التوصيات، والتي تشكل مساهمة نوعية من هذه المؤسسة الدستورية في النقاش العمومي حول موضوع إعادة النظر في النموذج التنموي كما دعا إليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة ترؤس جلالته لافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الحالية يوم 13 أكتوبر 2017 الماضي. ونعتبر أن هذه التوصيات المسماة "مبادئ توجيهية لإعادة بناء النموذج التنموي لمغرب الغد من مدخل العدالة الاجتماعية والمجالية"، تكتسي قيمة مضافة باعتبار النقاش العمومي التعددي والتشاركي الحر حول هذا الموضوع، وأيضا نظرا لتعددية وتنوع المشاركين في هذا المنتدى البرلماني الدولي الذي يشكل فرصة لتكملة المسار التشاوري والتشاركي الذي بدأه المجلس بخصوص بناء النموذج المغربي العدالة الاجتماعية خلال الدورتين السابقتين للمنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية خلال سنتي 2016 و2017 واللتين توجتا بوثائق في غاية الأهمية.

فالإضافة إلى التوصيات العديدة التي تعتبر من مخرجات هذا المنتدى، ومنها ما يتعلق بالقضايا المركزية ذات الصلة بالعدالة الاجتماعية، ولا سيما الاستثمار والتسريع الصناعي والحوار الاجتماعي والتنمية الجهوية والحكامة الترابية ، نرى أنه من الأنسب في هذا المقال الإشارة إلى بعض المحددات الأساسية التي يجب أن تحكم بناء أي نموذج تنموي جديد لكي يكون قادرا على ضمان العدالة الاجتماعية والمجالية والتي ليست عملية تقنية بسيطة بل هي عملية معقدة وممتدة في الزمان والمكان، وتقتضي إخضاعها لمنطق المشاركة وللنقاشات العمومية والمؤسساتية بشكل يجعله أكثر ديمقراطية وأن يتمحور بشكل أساسي حول المواطن، حول حاجياته وتطلعاته، وحول حقوقه وحرياته، باعتباره المشارك الرئيسي والمستفيد الأساسي في العملية التنموية وباعتبار الحق في التنمية حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف؛ ونورد هنا على سبيل المثال لا الحصر:

- أولا، أن يتم البناء على أساس التراكم سواء من خلال استثمار ما أنتجته مؤسساتنا الدستورية والوطنية والقطاعات الحكومية من استراتيجيات وخطط وبرامج واقتراحات ؛

- ثانيا، أن يجد النموذج التنموي الوطني أبعاده الخاصة بكل مجال ترابي في انسجام مع الرؤية الشاملة التي يجب أن يقوم عليها النموذج الوطني، كما يتطلب أيضا استثمارا أقصى لكل الإمكانيات التي تتيحها المنظومة القانونية الجديدة للجماعات الترابية، وتنشيط آليات التمثيل والوساطة والآليات التشاركية على المستوى الترابي؛

- ثالثا، أن تضع الرهانات الأساسية لبناء النموذج التنموي الجديد، في صلب اهتمامها الإنسان بصفة عامة والنساء، والأطفال والشباب، والأشخاص في وضعية إعاقة والمسنين بصفة خاصة من جهة ورفع تحدي تيسير الولوج لجميع الحقوق وفي مقدمتها تلك المرتبطة بالتعليم والصحة والشغل والسكن والعدالة من جهة أخرى؛

- رابعا، أن يراعى الحد المعقول من التماسك المنهجي للمقترحات والتوصيات التي ستقدمها مختلف المؤسسات واستحضار المبدأ الدستوري للمساواة بين الجنسين، وإعمال مقاربة حقوق الإنسان، واستلهام المرجعية الأممية المتعلقة بالمنظومة الدامجة للعدالة الاجتماعية والاستفادة من التجارب والممارسات الفضلى؛

- خامسا، جعل التربية والتكوين المدخل الأساسي والحاسم لتحقيق العدالة الاجتماعية ووضع القضايا والسياسات العمومية الموجهة للشباب في صلب النموذج التنموي باعتبارهم الرأسمال الحقيقي.

- سادسا، التخلي عن الإصلاحات القطاعية المعزولة، وإعادة ترتيب بعض الأوراش الاقتصادية والبرامج الاجتماعية والحسم في نوعية الاستراتيجية الموجهة لمحاربة الفقر والفوارق الاجتماعية والمجالية ؛

- سابعا، الإيمان بأن إصلاح الإدارة العمومية ومحاربة كل أشكال ومظاهر الريع والفساد، وجعلها في خدمة المواطنين وتحقق المنفعة العامة، محدد حاسم ؛

- ثامنا، لا بد من خلق وإرساء إطار مؤسسي موحد للقيادة والتنسيق بين مختلف البرامج ذات الصلة بالسياسة والبرامج الاجتماعية، بالإضافة إلى ضرورة إرساء قواعد حكامة مؤسسية موحدة وأيضا حكامة في البرامج وعقلنة الموارد الموجهة للسياسات الاجتماعية وما يستلزم ذلك من تحقيق الالتقائية والاندماجية والتجانس بين السياسات العمومية الاجتماعية؛

تاسعا وأخيرا، العمل ،من أجل ضمان شروط نجاح النموذج التنموي المأمول، على تحصينه بنظامين للمسائلة وللتتبع والتقييم.

هذه بعض من المحددات التي أردنا أن نضعها بين يدي القراء، في انتظار تعميم توصيات ووثائق المنتدى البرلماني الدولي الثالث للعدالة الاجتماعية.

*أستاذ باحث بكلية الحقوق