تحليل

من أجل حوار نخبوي يتجاوز الأزمة

أحمد الجبلي

إنه لمن الحكمة والرشد أن يتحدث الإنسان عما ينفع الناس في دينهم ودنياهم ويرفع من قدر أوطانهم وأمتهم، ومن العقل والبصيرة اختيار المداخل الصحيحة لمعالجة قضايا العباد والبلاد. فليس كل حديث ذا جدوى وليس كل ما نتحدث فيه هو ذا بال وقيمة.

إننا نشعر، أحيانا، بأن بعض الأقلام تتلهف لتصير اسما بارزا تتلقفه بالحديث والذكر الصحافة الوطنية والدولية ولو على حساب مبادئ وقيم ودين هذا الشعب، وذلك بتناول مواضيع من شأنها أن تثير نعرات وحساسيات نحن في غنى عنها، فيكون بذلك أصحاب هذه الأقلام، قد وقعوا فيما وقع فيه العديد من الكتاب العرب الذين طعنوا الأمة في الظهر بمسهم بمقدساتها ومقومات وجودها وحضارتها فأرجعوها آلاف السنين إلى الخلف، من أمثال المصري جمال البنا صاحب كتاب "جواز إمامة المرأة للرجال" والذي تطبع كتبه بأثمنة رمزية لما تقدمه في هدم للقيم وردم للمقدسات، حتى أصبح الرجل محور الصراع في المجتمع المصري مما ألهى العديد من المفكرين والكتاب وأوقعهم في مطبة النكوص الفكري والارتداد المعرفي والدوران في حلقات مفرغة لا تقدم شيئا لمصر ولا للشعب المصري. والكاتب السوري بسام طيبي الذي باع كل قيم العرب والمسلمين لصالح إسرائيل، وابن بلده محمد شحرور الماركسي الذي يؤلف في قضايا الدين الإسلامي ويبيح الزنا بين الشباب والشابات ولا يعترف بالحديث الشريف، ويدعو إلى إغلاق باب الاجتهاد على اعتبار أن القرآن هو وحده من يحل ويحرم، ومن هؤلاء من تم تكريمه من طرف دول عدوة تريد لبلادنا العربية والإسلامية العيش في الفتن، فكانوا، سواء من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، مفاتيح للشر مغاليق للخير، وبل، وللأسف، كانوا قدوة سيئة لبعض الكتاب عندنا الكتاب الخارجين عن الصواب.

إن بعض الكتابات التي نقرأها ونطالعها في إعلامنا المغربي تؤكد لنا بأن أصحابها يجهلون قاعدة "ليس كل ما يعرف يقال"، لأن الكتابة التي تسير في خط تغييري وتؤطرها رؤية واضحة من أجل غد أفضل ولأمة أكثر تماسكا وأكثر تقدما وعلما ومعرفة، حتما هي كتابة رزينة ومتزنة، تعرف كيف ترتب أولوياتها وتعرف بأن من أهم ضوابط الكتابة هي الحفاظ على وحدة الأمة حتى لا تمزقها الطائفية أو تعبث بها الفتن فتصير لقمة سائغة في متناول الأعداء، وما العديد من البلدان العربية عنا ببعيدة، كما نريد لهذه الأقلام أن تؤسس للتنافس الشريف الذي يتقاطع مع اقتناص الفرص واستغلال الأوقات الحاسمة لتصفية الحسابات أو لافتعال صراع يخدم المتربصين بنا وبوحدتنا أكثر من أن يخدم أي طرف في الداخل. إن القلم الحر هو القلم الذي يعرف بأن مجالات الكتابة لا حد لها وأن المجتمع العربي الإسلامي يحتاج، قبل أي وقت مضى، ليبني الرجال والنساء ويؤطر المواطنين ليتحول هذا المواطن إلى درع يحمي الوطن ومقدسات هذا الوطن، وليتحول من مستهلك إلى منتج في كل شيء: ينتج الأفكار ويبدع في وسائل التقدم والازدهار ويسهم في إدارة عجلة التنمية حتى لا تتوقف أو تتعثر، وإلى مقتحم لكل المجالات، عملا منه على وضع لبنات تبني الأوطان وتدافع عن حماها، وتصد كل عدوان يستهدف مقدساتها. لأن العالم العربي الإسلامي بمقدساته وثوابته يضمن استمراريته وحريته ويحقق كرامته.

عندما نقرأ لكاتب يدعو للتدريس بالعامية بعبثية تشبه عبثية ألبير كامو وسامويل بيكيت لا تنسجم مع العلم ولا مع الواقع، ودون أن يمنح لنفسه بعض الوقت ليتحرى في أهم مقومات الحضارة، أو يقرأ شيئا عن تجارب الدول المتحضرة التي لا تقبل ولا تتنازل عن التدريس بلغتها الأم التي توحد مجتمعها بكل مكوناته، وتجتنب التدريس بالعامية لكونها عاميات متضاربة من شأنها أن تزيد الأمة تمزقا وتفرقا وشتاتا كما تزيدها ابتعادا عن الوعي الجمعي والمسار الحضاري. ولذا عندما يقرأ مثل هذا الكاتب ردا علميا من أهل التخصص عليه أن يخجل من نفسه ومن جهله، وما عليه حينها إلا أن لا يعود إلى هذه المغامرات الفكرية الخطيرة غير المحسوبة. لأن القول في كل شيء وبدون علم غالبا ما يضر ولا ينفع كما يمكن أن يخلق فتنا الوطن والمواطنون في غنى عنها.

إن الكاتب والمثقف عموما له مكان واحد ينسجم مع ما معه من ثقافة ومعرفة وهو الانحياز إلى الشعوب العربية وقضاياها العادلة. لأن الكثير من المرتزقة أفرادا وهيئات ظلوا يتلاعبون بمصير هذه الشعوب ومصير أبنائها ومصير مقومات وجودها. ووحده الكاتب الحر ذو القلم الملتزم من يلقي على عاتقه الوعد بالتخندق في صفوف الشعوب العربية منها قضايا شعبه ووطنه، والاستماتة في الدفاع عن قضاياها بالأخص قضايا كرامتها الممتهنة، وثرواتها المسلوبة. وحتى يقع التفاعل مع هذه الشعوب ومع همومها لابد له أن يلتزم الحياد فيما يكتب ويقول وأن يجعل له أخلاقيات يتمسك بها ولا يتنازل عنها مهما كان الوضع ومهما تعرض للنقد والرد.

إن المواطن العربي ليس في حاجة لمن يزرع فيه فكر العداوة وثقافة الإقصاء، لأن ذوقه يمج خطابات التفرقة والتقسيم والتأزيم، تماما كما يمقت عقلية الأزمة والتيئيس، من ذلك ما وقع في الجامعات العربية ونقاباتها الفاعلة إذ أن أكبر شيء نفر الجماهير الطلابية والعمالية من إطاراتها النقابية الشريفة العتيدة هو عقلية الأزمة وافتعال الصراعات، والحروب الدموية بين المناضلين عوض التوحد على أرضية برنامج مشترك مهما اختلفت التوجهات وتنوعت المرجعيات.

إن المتصفح للجرائد، سواء منها الورقية أو الإلكترونية، يوشك أن يحكم على نخبتنا المثقفة بأنها نخبة أزمة وصراع وتضاد، إذ أقلامنا لازال الكثير منها لا يستطيع كتابة مقال دون اللجوء إلى قاموس الطعن في المقدسات والثوابت وما أجمع عليه المواطنون منذ قرون. وأما فيما يتعلق بحرية إبداء الرأي فلن يكون مسوغا للخوض في الطابوهات إلا إذا كانت الكتابة بموضوعية ومناقشة الأفكار دون أن يعوزها في ذلك الدليل والحجة والانطلاق من فرضيات تصل بها اضطراديا إلى نتائج معتبرة، فتنال احترام الخصوم قبل الأصحاب. لأن الخصم يحترم من ينتقده بعلم وأدلة وبنسق تحليلي واتزان موضوعي، ولكنه لن يجد مبررا لكاتب يغتال مصطلحات اللباقة والاحترام ويفتقد أدنى حس مسئول فيما يكتب ويدلي من آراء. إن الذاكرة المغربية لازالت تستحضر المصطلحات التي لجأ إليها أحد القياديين الإسلاميين للطعن في خصومه الشيوعيين فرماهم بالوطاويط والخفافيش. كما لا تنسى قاموس الشتائم والنعوت الذي لجأ إليه الشيوعيون بالمثل للضرب في الإسلاميين كالظلامية والعدمية والرجعية، كما لا تنسى العديد من الكتابات التي امتطت قطار السخرية من المقدسات كالذي نسج من خياله قصة عن عذاب القبر فمثل مَلَكا كريما بجبار يحمل صولجانا، وآخر أنشد شعرا يقول: ماذا علموك يا ولدي؟ تلاوة القرآن..مؤامرة النسيان..خراب..خراب..خراب؟" وثالث لم يستحي فألف رواياته في أحضان العهر والسكر والعربدة ليخاطب شعبا مسلما فيكون بذلك خارج السياق وخارج التاريخ. ورابع وخامس وسادس أبوا إلا أن يمسكوا بذيل سلمان رشدي وتسليمة نسرين، هذين الأخيرين اللذين أظهرهما الإعلام الغربي على أنهم رموز من رموز الفكر والحرية والإبداع حتى يُتخذوا من طرف الكتاب العرب قدوات تستحق الاتباع والمحاكاة.

فما أيسر أن يثور الإنسان على الطابوهات والمقدسات، وما أيسر أن يلجأ لقواميس الأحياء الشعبية فينزل في الناس والدين سبا وشتما ويتفنن في ابتكار أقبح الصفات والنعوت. ولكنه سيعلم عاجلا أم آجلا بأنه أول من سيتضرر إذا ضاعت هوية شعب هو أحد أفراده، واندثرت القيم والأخلاق من مجتمع هو كان أحد أهم معاول الهدم فيه. أو جعل مع الدين الأوحد الذي يضمن حرية المعتقد شركاء متشاكسون سيبيحون كل شيء فتعم الطائفية النثنة التي نراها صباح مساء كيف شلت من قدرات دول ورهنتها للمجهول، وجعلتها لقمة سائغة لدى الأعداء.

فالكاتب المخلص لدينه ووطنه هو وحده من يجتنب الخوض في أمور يمكن أن تخلق فتنة وتزعزع الاستقرار الذي ينعم به الوطن، أو أن يسمح لنفسه كي يكون ضمن مخطط من شأنه أن يفتح المجال نحو طائفية تمزق هذه البلاد، فنصبح نرى الشيعي يمر في شوارع الرباط وهو يحمل السيوف والخناجر ويسيل الدماء ويجلد ظهره ويطعن رأسه احتفالا بعاشوراء، فتتحول البلاد إلى مأثم، وشوارعها إلى أنهار من الدماء تفزع الصغير والكبير، وبالقرب منه من يستحم ببول الأبقار ويحرم ذبحها، وآخر يبني له قبة يحج إليها، وثالث يرى في هذه القبة لعنة وحربا على معتقده فيهدمها أو يفجرها، فكل طائفة حينئذ ترى ما لا يراه غيرها، فتتداخل المحرمات والمباحات، وما يعتبر جريمة هنا يعتبر فعلا حسنا هناك، وما يعتبر شرا هنا يعتبر خيرا هناك، وعندما تتدخل الدولة لوضع حد لهذه الفتنة والفوضى تبدأ التدخلات الأجنبية تحت يافطة حماية الأتباع والأقليات.

لعل من أهم المعايير التي تجعلنا نميز بين الكاتب الوطني من غيره هو الحذر بقياس ما يكتب في ظل مقاربة صريحة وواضحة بين ما ينفع البلاد ويوحدها ويقويها خصوصا في ظرف لازالت البلاد تعاني من انفصال جزء من ترابها وبتواطئ من جيرانها وجبهات مفتوحة لازالت تعاني منها تخص طبيعة العداء والتحيز الذي دائما كان ينهجه الأمناء العامون لهيئة الأمم المتحدة، فضلا عن الأحزاب اليمينية الأوربية المتطرفة التي لازالت تتربص بنا شرا، وبين ما يقوي الجبهة الداخلية ويحافظ على الأمن والاستقرار. فالناس لا يستقرون إذا ما مست مقومات وجودهم كالوطن والدين واللغة، وقد رأى العالم كله كيف أن الكرة الأرضية قد ارتجت واهتزت بأقدام المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها عندما تم الاستهزاء بنبي الإسلام من طرف صحافة أوربية متهورة لا تعرف حدود الحرية فقامت بتوريط دولها التي عانت من اهتزاز دبلوماسيتها وتشوه صورتها ونكوص علاقاتها الدولية مع الدول الإسلامية كما عانت من الحصار الاقتصادي المؤلم، مما أرغم في الأخير صحيفة "جيلاندز بوستن" الدانماركية إلى الاعتذار عن نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة لنبي الإسلام، وقد لقي هذا الاعتذار ترحيبا كبيرا من طرف الحكومة الدانماركية.

وأهم درس يمكن أن تستفيد منه الصحافة الدولية عموما والمحلية تحديدا هو أن من الحكمة ألا أنشر شيئا قد يضطرني فيما بعد إلى الاعتذار، وهو الدرس الذي لم تستوعبه جريدة شارلي إبدو فدفعت الثمن باهضا.

ليس صعبا أن يلتزم الإنسان الهدوء ويقوم بطبخ مقال على نار هادئة. فيسدد ويقارب ويميز بين ما يقال وما لا يقال، بين ما يقبله القراء وما يرفضونه في ظل استقراء المآلات، فيفحص كلامه في ضوء المصالح والمفاسد، ويزنه بميزان القيم والمبادئ والأخلاق المتفقد عليها مجتمعيا، والذي يعتبر رأس مال كل كاتب، وإن اختلف مع أحد، فليختلف بأدب حتى يحافظ على احترام خصمه له. وذلك طبعا بعدم التجريح أو القذف والرجم بما اختلف من النعوت، أو اختلاق أكاذيب وتلفيق طراهات لا أساس لها من الصحة مما يحول الاختلاف إلى خلاف ثم إلى عداوة وبغضاء وبالتالي يتحول هذا الوطن إلى حلبة صراع تتقارع فيها التيوس وتتناطح فيها الثيران.

إن الوطن في حاجة لكل أبنائه بمختلف تلويناتهم السياسية والفكرية، وهذا مما يستوجب عدم حرق السفن في النقاش والمطارحات الفكرية بالدخول في مهاترات أو نقاشات بيزنطية تعيدنا للعهود القروسطوية. وعلى رأس أهم الأبجديات في التعاطي مع نشر الأفكار والأطروحات يأتي احترام الحساسيات الدينية والتمييز بين الحد الفاصل بين حرية التعبير واحترام الخصوصيات، على اعتبار أن حرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، وكما قال جون ستيوارت: "إن السبب الوحيد الذي يعطي الحق لمجتمع حضاري في التدخل في حرية عضو من أعضائه هو حماية الآخرين من أضرار ذلك التصرف".

إذا كان الكتاب وهم حاملو مشاعل التنوير للقراء، قد وقعوا في معارك لا أخلاق فيها. فما الذي نتوقعه من الذين هم غارقون في بحر الجهل والأمية والتخلف من أبناء هذه الشعوب؟

أليس حريا بالنخبة المثقفة الواعية والكتاب المتنورين أن يرفعوا من مستوى أقلامهم بالترفع عن أساليب التخلف والانحطاط؟

إذا كان البعض يعتقد بأن قذف مقدسات شعب ما ورميها بما قبح من النعوت والأوصاف وجلد ظهر معتقداته جرأة وتغيير لمنكر. فإن المنكر بعينه هو هذا القذف وهذه النعوت والخوض في كل شيء بدون ضوابط ولا أخلاق. وإذا كانوا يعتقدون بأنهم دائما على صواب عندما يطلقون العنان لأقلامهم للتجني على الدين الرسمي للبلاد. فهذا مخالف لطبيعة الإنسان الذي جبل على الخطإ والنسيان، أي لا يمكن أن يحسموا في صوابهم بمخالفة ما أجمع عليه أربعون مليونا من مسلمي هذا الوطن عبر قرون.

إنه سلوك من شأنه أن يدخل صاحبه في سجن الكبر والغرور، وربما قد يؤدي به إلى النظر إلى الخلق وكأنه إلاه الناس الذي يملك الحقيقة المطلقة، فلابد من التمييز بين نقاش الأفكار الاجتهادية لبشر يجتهدون ويخطئون مهما كانت مكانتهم العلمية ومرجعياتهم السياسية أو الدينية، وبين ما أجمعت الأمة كلها على قدسيته كمرجع إليه الإياب والاحتكام، فمن حق كل الناس أن يناقشوا كل الناس، ومن حق كل الناس أن يسألوا في كل الأشياء ولو كانت لها علاقة بالمقدس لكن دون الطعن والضرب في هذا المقدس لأنه جزء من كيان شعوب والمس به هو مس بكيانها.

ولأكون أكثر وضوحا فليس من حقي أن ألعن العلمانية أو الإلحاد بل حق العلماني أو الملحد الآخر علي أن أحترم أي خيار اختاره لنفسه انطلاقا من تعالم ديني الذي يجبرني على أن أحترم معتقدات الآخرين بقوله لي (لا إكراه في الدين) ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين) (لست عليهم بمسيطر)، ولكن من حقي مناقشة العلمانية والإلحاد بأفكاري وقناعاتي. وهو نفس المطلوب منه ليفعله مع ديني ومعتقدي، فليس له أن يطعن أو يلعن أو يشوه أو يسيء إلى ديني أو إلى رسولي أو إلى أي إمام من الأئمة الذين أبجلهم وأقدرهم وأعتبرهم مصابيح ينيرون لي طريقي، ولكن من حقه أن يطرح للنقاش أي أفكار جاء بها الإسلام يراها هو بالية مثلا أو غير ذات جدوى في القرن الواحد والعشرين.

إنني أرفض رفضا باتا أن يقوم شاعر بنظم قصيدة يتستهزئ فيها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "النساء ناقصات عقل ودين"، فليس من حقه على الإطلاق أن يفعل هذا، ولكن من حقه أن يكتب مقالا يناقش فيه الحديث الشريف ليثبت للناس أنه حديث لا ينسجم مع العلم والواقع، ولو فعل هذا سأحترمه أكثر، وحينها سيكون لي دور لأرد عليه بمقال مماثل كي أبين له خطأه فيما ذهب إليه وأن الحديث لا ينقص من قدر المرأة شيئا. فإن هو أقنع الناس وأقنعني بأن الحديث فعلا ينقص من قدر المرأة فحينها فلينظم قصيدته بالشكل الذي يريد ولن يجد مني ردا ولا احتجاجا.

إن ما تعرض له الإمام البخاري، على سبيل المثال، وما تعرضت له أحاديثه الصحيحة، قد ناقشها علماء وباحثون وكانت بعض أحاديثه عناوين لأطروحات علمية قام بها طلبة باحثون، وقد رد الألباني بعض أحاديث البخاري وناقش الرواة راو راو وجاء بكل أقوال العلماء في كل رجل من رجالات الرواية قيد الدرس، فضعف بعضها. ولكن الأمة قبلت منه ذلك وناقشه الباحثون والعلماء في إطار من المعرفة بالموضوع كعلم عظيم واسع و متفرع له أصوله وقواعده، ولم تقم لا ضجة ولا تم اللعب بالمصطلحات الكبيرة من قبيل "نهاية الأسطورة" كعنوان غريب ومستفز من طرف شخص لا دراية له ولا علم بهذا المجال الذي يشبه البحر، ولم يتبحر فيه إلا من قَوَّسَ الظهور وأثنى الركب وأفنى العمر.

لقد ناقش الدكتور عبد العزيز الإدليبي، كما ناقش العلامة محمد ابن زاهر الكوثري الماتريدي العديد من كتب ابن تيمية وابن القيم الجوزية وهما عمودان صلبان لا يجوز مسهما في الفكر السلفي المعاصر، ورد عليهما ردودا كثيرة استنادا إلى العلم والمعرفة واستنادا إلى الدليل الذي لا تقليد فيه ولا ضعف، فالسلفيون إن غضبوا سيعتبر ذلك تعصبا منهم، وقد فعلوا للأسف، وإن عقلوا ردوا على ذلك بالعلم والمعرفة واستدعاء الأدلة لمواجهة ما قال به الآخر.

أعتقد أن الحوار بهذا المنهج يكون حوارا راقيا من شأنه أن يرفع من مستوى التحضر لدى الأمة، كما من شأنه أن يكون دروسا ينشأ عليها الناشئة وطلبة العلم في مناقشات خصومهم بل وحتى أعدائهم، وفي نفس الوقت يحافظ على الوحدة داخل الوطن والأمة مع احترام جميع الآراء مهما اختلفت وتنوعت.