قضايا

هذا أساس المطالبة برفع التجريم عن العلاقات الجنسية الرضائية بين البالغين بالمغرب؟

محمد الهيني

الفقه الإسلامي والقانون الوضعي لا يعاقبان عن الفساد غير العلني

أن تصريحات وزير العدل محمد أوجار المطالبة برفع التجريم عن العلاقات الجنسية الرضائية بين البالغين التي جاء فيها: "إذا كانت اختيارات المواطنين هي ممارسة الحريات، فإنه لا يجب أن تمارس في الفضاء العام"، موردا أن "العلاقات الجنسية الرضائية مثلا بين راشدين بدون عنف لا تعني المجتمع، ولكن يجب احترام الآخرين عند ممارستها"، هي تعبير عن اتجاه جدير بالتأييد وهو موقف حقوقي وحداثي متميز لأن ه ينسجم مع تعزيز الحريات الفردية ما دامت لا تمس بالآخرين ولا تعارض النظام العام في شيء، سواء النظام العام القانوني أو النظام العام الإسلامي، لأن الفقه الإسلامي نفسه لا يعاقب عن الزنى، أي الفساد، إلا إذا ارتكب بصفة علنية، أي بتعبير عصرنا هذا في الفضاء العام، وهكذا نجد الفقه الإسلامي تشدد كثيرا في إثبات جريمة الفساد إلى درجة استحالة إثبات الجريمة في الواقع؛ لذلك يشترط لإقامة حد الزنا: ثبوته، وذلك إما بشهادة أربعة رجال، أو بالإقرار، أو بظهور الحمل مع انتفاء الشبهة وانتفاء دعوى الغصب والإكراه على الراجح.

والدليل على اشتراط أربعة شهود: قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) النساء/15، وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور/4، وقوله: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) النور/13.

وروى مسلم (1498) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إن وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

وثبوت الزنا بشهادة الشهود أمر متعذر حسبما اجمع عليه الفقه، لأنه من الصعب أن يوجد أربعة يشهدون وقوع إيلاج القضيب في الفرج.

ولهذا قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولم يثبت الزنا بطريق الشهادة من فجر الإسلام إلى وقته، وإنما ثبت بطريق الإقرار، لأن الشهادة صعبة، كما سيتبين إن شاء الله"، انتهى من "الشرح الممتع " (14/257).

ثم قال: " فلو قالوا: رأيناه عليها متجردين، فإن ذلك لا يقبل حتى لو قالوا: نشهد بأنه قد كان منها كما يكون الرجل من امرأته، فإنها لا تكفي الشهادة، بل لا بد أن يقولوا: نشهد أن ذكره في فرجها، وهذا صعب جدا، مثلما قال الرجل الذي شُهِدَ عليه في عهد عمر: لو كنت بين أفخاذنا لم تشهد هذه الشهادة، وأظن هذا لا يمكن، ولكن لا أدري هل يمكن بالوسائل الحديثة أم لا كالتصوير؟ الظاهر أنه لا يمكن أيضاً، لأن الذي تدركه الصورة تدركه العين، فإذا لم تدركه العين لم تدركه الصورة، ولهذا يقول شيخ الإسلام: إنه لم يثبت الزنا عن طريق الشهادة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهده، وإذا لم يثبت من هذا الوقت إلى ذاك الوقت، فكذلك لا نعلم أنه ثبت بطريق الشهادة إلى يومنا هذا، لأنه صعب جدا.

فلو شهد الأربعة بأنهم رأوه كما يكون الرجل على امرأته، فإنه لا يحد للزنا، ولكن هل نقول: إن هذه تهمة قوية بشهادة هؤلاء الشهود العدول، فيعزر؟ نعم، فإذا لم يثبت الزنا الذي يثبت به الحد الشرعي، فإنه يعزر لأجل التهمة" انتهى من "الشرح الممتع (14/271).

الحكمة التامة في ما شرع من اشتراط الشهود مع تعذر ذلك، والمراد عدم إشاعة هذه الفاحشة، فإن المنكر إذا تكرر ظهوره وكثرت فيه الدعاوى والإثباتات وتعددت الحالات، فإنه يسهل على النفوس اقترافه.

قال في "الهداية": "ولأن في اشتراط الأربعة يتحقق معنى الستر وهو مندوب إليه والإشاعة ضده".

قال ابن الهمام في "فتح القدير" (5/214): "أما أن فيه تحقيق معنى الستر فلأن الشيء كلما كثرت شروطه قلّ وجوده، فإن وجوده إذا توقف على أربعة ليس كوجوده إذا توقف على اثنين منها فيتحقق بذلك الاندراء".

ومن المهم الإشارة إلى أن موقف الفقه الإسلامي هذا يتلاقى كليا مع القانون الوضعي؛ بحيث إن الفصل 493 من القانون الجنائي اشترط لإثبات الفساد حالة التلبس، أي مشاهدة الشرطة القضائية لوقوع الإيلاج بين الرجل والمرأة، أو باعتراف قضائي، أو بناء على اعتراف تتضمنه مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم، وهي حالات شبه مستحيلة في الواقع لأن الجريمة تقع في مجال مغلق وليس في الفضاء العام.

وما لا يعرفه من يحاجج بغير دليل في هذه المسائل أن القانون الجنائي قانون وضعي وليس إسلاميا في أغلب نصوصه، ولا يمكن أن نجتزئ الأمور في هذا الباب، ونتساءل معهم كيف نقبل بأن تنازل الزوج عن متابعة زوجه يسقط الدعوى العمومية والعقاب، وأن الشكاية شرط لازم للمتابعة، وكيف نقبل أيضا متابعة زوج دون آخر إذا لم تتنازل أو يتنازل زوجه، وكيف يفلت من العقاب المتزوج بعد تنازل زوجه ويبقى الشريك غير المتزوج متابعا في القضية، ألم يرتكبا الجريمة معا؟ فأي عدالة تقبل بهذا التمييز وخرق المساواة؟ ولماذا تقييد هذه الجريمة بوسائل إثبات مخصوصة إذا لم يكن الداعي إلى ذلك هو ضمان إفلات الفاعلين من المتابعة أو العقاب؟ اليس حريا بنا أن نرفع التجريم بصفة مطلقة عن الجريمة على الأقل لضمان معاملة مساوية بين الطرفين تجنبنا للتمييز في معاملة الطرفين إزاء واقعة وحيدة؟

وهكذا يستخلص من التشدد في إثبات جريمة الفساد أن كلا من الفقه الإسلامي والقانون الوضعي كقاعدة عامة لا يعاقبان عن الفساد إلا إذا كان علنيا، أي مرتكبا في الفضاء العام، أي إن الفساد غير العلني لا يدخل في دائرة التجريم، ونعتقد أن من يعارض مقترح الغاء تجريم العلاقات الرضائية بين بالغين لا يفقه في تفسير مقاصد الفقه الإسلامي أو القانون الوضعي لأن تلك العلاقات تخص أطرافها ولا تشكل اعتداء على أي مصلحة عامة مادامت لا تتم في الفضاء العام ومقامة بين بالغين ولا عنف فيها، ويتحمل وزرها دينيا أصحابها في علاقتهم بالله ولا يمكن للقانون أن يتدخل فيها، كما لا يتدخل القانون في العبادات، وما يهم المجتمع والقانون الجنائي هو علاقة الإنسان بالإنسان وليس علاقة الإنسان بخالقه التي يحكم عليها الله وحده.

وفي الختام، نعتبر أن تصريح وزير العدل أوجار برفع التجريم عن العلاقات الجنسية الرضائية يتناغم كليا مع ما أقدم عليه سلفه الرميد حينما قدم مشروعا حداثيا بفرض مجرد غرامة على جريمة الفساد في تعديلات مشروع القانون الجنائي بتخيير القاضي بينها وبين الحبس؟ السؤال هل يعلم ذلك اليوم من يتبجح بالدفاع عن الموروث "الإسلامي" انطلاقا من قراءة انتخابوية وسياسوية للموضوع، فكلما اشتبهوا وضبطوا بارتكابها نفوها وإذا وسم غيرهم بها حقروهم باعتبارهم مذنبين وخارجين عن الدين والقانون ووجب عليهم الحد؟