رأي

أحمد إفزارن: يَحتجِزُون الخيالَ الوطني!

تعليمُنا، إمّا يُنعِشُ الخيال، ويَجعلُه في قمّةِ الإيجابيّة، أو يَشُلُّه ويُنْهِيه، ويَدفعهُ إلى حَضيضِ السّلبية.. النتيجةُ تأتي من التعليم، وتنتشرُ في كلّ ربُوع البلاد..

التّعليمُ يُنشّطُ الخيال، إذا كان تعليمًا في المستوى المطلوب..

ولا حضارةَ بدون خيال..

ولا مسؤوليةَ بدُون مَلَكةِ الخيال..

وعلى كلِّ مدارسِنا، وفي كل تَخصّصاتِها، أن تُعلّمَ أطفالَنا وشبابَنا كيف يُوظّفون المعلوماتِ التي تلقّوها من التعليم، للرّقيّ بأذهانِهم إلى مُستوياتٍ إنعاشية فعّالةٍ للخيال..

خيالُنا الفردي والجماعي المشترَك، ليس عاقرًا..

الخيالُ يُثمرُ أدمغةً غيرَ مُتحجّرة..

ولا يجوزُ أن تقُومَ جهاتٌ مسؤولةٌ بعرقلةِ المخيالِ الوطني..

عندنا، داخلَ البلد وخارجَه، أدمغةٌ مُؤهّلة لتطويرِ الوطن، من خلالِ تطويرِ المواطن، وتطوير ِالحياة الخاصة والعامة، وإنتاج مُجتمع في مستوى التعايُش البنّاء، المنفتحِ على الذات، وعلى كل العالم..

وعلينا بتحريرِ الخيال..

ولَجْمِ حُكومةٍ غبيّة، وأحزابٍ ومُؤسساتٍ سابحةٍ ضدَّ المخيالِ الوطني..

وما أحوجَنا إلى مزيدٍ من الخيالِ الفردي، والخيالِ الجماعي، لتحريكِ مُبادراتٍ فرديةٍ وجماعية، وفي مُؤسّساتِنا كلِّها، بدون استثناء..

هذا المخيالُ الوطني كنزٌ ثمينٌ لنا جميعا..

وعلينا بتربيةِ الخيال في بلدنا، ليكُون في مستوياتِ النضجِ الوطني، ومن ثمّةَ نُضجِ الأحزابِ والنقاباتِ والبرلمانِ والحكومة، وكلِّ المؤسساتِ الدستورية.. ولكي يكونَ هذا الخيالُ نبراسًا لكلِّ المجتمع..

والخيالُ المطلوبُ ليس اعتباطيًّا.. ولا عبثيًّا.. ولا من أضغاثِ أحلام..

ـ ومن العقل نبدأ، لنرقَى إلى خيالاتٍ تَرسُمُ خارطةَ الطريقِ الصّحيحة، السالكة، لنا جميعا..

وما أحوجَنا إلى دروسٍ في تجاربِ العالم المتطوّر، فنستمدَّ منها كيف يُعلّمون ويتعلّمون.. وكيف يمارسون الواقع.. وكيف يستفيدون من ثمار مِخيالِهم الذي بنوهُ فُرادَى وجماعات..

ويجبُ ألا نُفرّطَ في ما تبَقَّى لنا من مُؤهّلاتٍ مخيالية..

إنهُ خيالُنا الباني المشترَك..

وليس هو التّخيُّلُ الهدّام..

وعلينا بخيالٍ بنّاء!

عندنا مسؤولون يُحارِبُون، بعقليةٍ مُتخلّفة، كونَ الخيال ضرورةً حضارية..

أولاءِ يَحسبُون أن الخيالَ الشعبي في قبضتِهم.. يَتحكّمُون فيه..وهم واهمُون..

لا أموالُهم، ولا طُغيانُهم، ولا قوانينُ قد فبْرَكُوها، وبتَسَرُّع، تَستطيعُ وقفَ خيالِنا الوطني..

الخيالُ بلا حدود..

الخيالُ فوقَ العقل..

فوقَ التفكير..

فوقَ التّحليل..

هم يستطيعُون التجسُّسَ على الناس، ولكنهم لا يملكُون أداةً فعليةً لمحاصرة الخيال، وتقييدِ الابتكارِ الخيالي، وإبداعاتِ الخيال..

الخيالُ رغمَ أنفِهِم مُتحرّر..

ومن يملكُ خيالاً مُتحررًا من القيود، ومن التقاليد البالية وغيرِها، هو قادرٌ على قراءة الآفاق، وإضاءةِ المستقبل، وإيجادِ الحُلول، والتحرُّرِ الذاتي من أيّ إكراه..

والفردُ المستقلُّ في تفكيره وتخيُّلاتِه، ليس تابعًا لأحد..

هو حُرٌّ مُستقلّ لا يتلقَّى إملاءاتٍ من أحد..

وهذا صادقٌ في تحاليلِه واستنتاجاتِه..

وإذا أخطأ، يُصحّحُ أخطاءه..

ولا يتردّدُ في تصحيحِ أخطائه..

وهذا الخيال، بهذه الاستقلاليةِ والاستقامةِ والقُدرةِ على السباحة الحُرة في عَوالِـمَ لامادّية، يبدأ حركتَه في كل الاتجاهات، عندما ينتهي العقل..

بعد العقل، ينطلقُ الخيال..

وإذا كان العقلُ معتُوهًا، كان الخيالُ تخريفًا..

والخيالُ قد يكونُ أيضا مريضا، أو في صحة غيرِ سليمة..

إذا كان سليمًا من كل العاهاتِ التأمُّلية، يستطيعُ أن يخرق كلَّ الحواجز، ويَستكشفَ ما يُتصوَّر، وما لا يُتصوَّر.. لا حواجزَ أمام هذا الخيال، إلا الحواجز الذاتية..

وباستثناءِ الذات، لا أحد يَحتجزُ الخيال..

المرءُ نفسُه هو صاحبُ الكلمةِ المخيالية، في البدايةِ والنهاية..

المرءُ نفسُه يُحرّرُ خيالَه أو يَحتجزه بين جُدرانٍ مُغلقة..

وأن يكون حُرَّ التفكير والتأمل، أي هو صاحبُ القرار على ما يُنتجُ خيالُه، فهو مؤهلٌ للسّباحة الكونية في كل اتجاه، وتَصوُّرِ ما في عوالم أخرى، محدودةً كانت أو بلا حُدود..

وتستطيعُ المدرسةُ أن تَبني العقل، إذا كانت مَناهجُها تُركّزُ على تعليمِ كيفيةِ التفكير السليم.. تستطيعُ بناءَ العقل، لكنها لا تستطيعُ بناءَ الخيال، وحُريةَ التخيُّل، واستقلاليةَ المخيال.. هذه تتوقفُ على المرء نفسِه: نفسيتِه وعقليتِه وحالتِه العصبية..

إذا كان شخصًا مُتوازنَ النفسِ والعقلِ والحالةِ العصَبية، ومُواظبًا على رياضةِ التّخيُّل، يستطيعُ بناءَ خيالٍ ذاتي، مُؤهلٍ لاستكشافاتٍ واختراعاتٍ وابتكارات، وللبحثِ عن أجوبةٍ لأسئلة مُعقّدة...

وإلاّ، فالحالةُ الذاتيةُ تُشكّلُ عائقا أمام التحرُّر الخيالي..

هذه عرقلةٌ مُحتمَلة..

وهناك عرقلةٌ أخرى هي أن يكونَ الفردُ تابعًا لغيره..

إذا كان غيره يُفكر نيابةً عنه، فهو غيرُ متحرر، ولا يرقى إلى مستوى حُرية الخيال..

الخيالُ نفسه كثيرا ما يكون حاجزا لصاحبه، إذا كان صاحبهُ تابعًا لغيره، في الدّينِ والسياسةِ والتفكيرِ العامِّ والخاص، لأنه لا يملكُ سُلطةَ الخيال الذاتي.. هو يتخيلُ على أساس ما قرأه أو سمعه أو تأثّر به.. وفي هذه الحالة، هو لا يُفكر، بل غيره يُفكر نيابةً عنه، ثم يُلقّنه ما عليه أن يُردد..

ويتحولُ المرءُ إلى ببغاءَ يُردد ما قيل له.. بينما من يملكُ سلطةَ القرار الذاتي، بدون أيةِ موانع، لا سلطوية ولا سياسية، ولا دينية ولا غيرها، هذا قادرٌ على الإدلاءِ برأيه وموقفه بدون أن تتحكمَ فيه حواجز..

لا حواجز في تفكيره..

هو حرٌّ طليق..

يُفكر بشكلٍ حُر، ويمارسُ ملَكةَ التخيُّل، خارجَ كل الحواجز..

لا حواجزَ في طريقِ الخيالِ المتحرر..

وكلُّ أحرارِ العالم، لم يُساهموا في قيادة مُجتمعاتِهم، ولم يكُونوا قادةَ رأي، إلاَّ بحُرّية الخيال..

وحُريةُ الخيال تقودُ إلى سُلطةِ المبادرة..

الخيالُ الحرّ يقودُ إلى مُبادراتٍ حرّة..

وكلُّ من بنوا حضارات، يملكُون حريةَ الخيال، ومن ثمةَ حريةَ القرار، وحريةَ اتخاذ مبادراتٍ في مختلفِ الحقول، ومنها حقولُ الفنون والآداب والاقتصاد والسياسة، وأيضا قيادةُ المجتمع إلى وجهةٍ مُشْرقة..

وهذه القاعدةُ لا تخلو من حالاتٍ شاذة: بعضُ القادة تمرَّدُوا حتى على أنفُسِهم، وانقادُوا هُم أنفسُهم إلى مسالكَ غيرِ سليمة.. واتخذوا قراراتٍ خاطئةً تَسبّبت في انهيار حضارة كانوا هم أنفسُهم في قيادةِ من بنَوْها..

إن سلطةَ الخيال سلاحٌ ذو حدّيْن..

وقد تكونُ وبالاً إذا كان من اتَّخَذها في حالةِ اختلال..

وفي عباقرةِ العالم بعضٌ من المختلّين، ومنهم مجانينُ العظَمة.. هؤلاء لهم حريةُ التخيُّلِ والقرار، ولكنهم محرُومون من الاسترسال في حرية المخيال، بسبب حالتِهم النفسيةِ المريضة..

المرضُ النفسي والعقلي والعصبي يتحكمُ أيضا في صاحبه، ولو كان من العباقرة..

كما يَتحكمُ في العبقري أن يكون تابعًا لحزب أو سُلطة أو مذهبٍ أو أي توجُّهٍ فكري..

التَّبَعيةُ تُفقِدُ صاحبَها حُريةَ التفكيرِ والتأملِ والتَّخيُّل..

ويكونُ بذلك تابعًا.. لا متبُوعًا!