رأي

محمد بودويك: بكاء المعرة

خَدَعَنا ظَنُّنا، ذهب بنا طُرُقاً بَدَداً، وسبلا شتى. وقع في وهمنا أننا تركنا لحالنا، وأننا حللنا بالمكان الخطإ في الوقت الخطإ، ونزلنا بفندق "الديوان"، وقد التبسنا بأسماء أخرى هي من يتوقع حضورها في كل وقت وآن.

ظللنا بعد أن بتنا ليلتنا مجهدين من وعثاء السفر، علينا غبار الإعياء، وهدير المحركات، لا يبرح طبلة / طبلات آذاننا حتى لتكاد تنخلع وتنثقب من فرط الصخب الذي علق بها، وفيض الصداع الذي شق رؤوسنا، وزعزع أدمغتنا. ظللنا وقد أصبحنا، وتسلل شعاع دمشق الفيحاء من خلل نوافذنا إلى الستائر، والأغطية والجدران، فأمرعت غرفنا النظيفة الأنيقة في موج قزحي من الألوان. ننتظر "المهدي"، ننتظر طَرْقاً على الباب، أَوْ رَنَّةً يتيمة لكن منعشة على الهاتف الداخلي، لتخرجنا مما نحن فيه، من حيرتنا، وصمتنا الذي ران بيننا، وخيَّم كظل غراب حتى تكسر على موائدنا كالزجاج، جمعنا كِسَرَهُ وشظاياه، ورحنا نتبادل نظرات حسيرة، كَلْمَى، تَمَثَّلْنا ما لا يُتَمَثَّلُ، واستحضرنا المحبط من الأمور، والمخيف القادم. قلنا بصوت مسموع وكأننا استجمعنا ما بقي فينا من أريحية مُضَريَّة، وشجاعة عنترية : ليكن ما يكون، فلربما أُجِّلَ الموعد، وأُرْجِيءَ الحفل البهيج الذي سيتوج حلب الشهباء عاصمة للثقافة الإسلامية العام 2006، وهي الأجدر والأقمن به لتاريخها وثقافاتها وحضارتها، وجمالها وبهائها إنسانا وعمرانا.

ليكن ما يكون. سنخرج إلى حارات دمشق وحواريها وأسواقها التاريخية التي أحطنا بها علما في الأوراق والكتب والمصنفات، حتى يفعل الله بنا ما يريد، أو تفعل بنا الأيدي البشرية ما تشاء من مسح على رؤوسنا، وتربيت على ظهورنا، أو تطويح بنا وقذف إلى ما لا نعلمه.

كانت الدهشة تزداد وتأخذ بمجامعنا ونحن نتوغل في السوق التاريخي "الحميدية" الذي بادهنا مرئيا متعينا يكاد يشابه بطحاء فاس القديمة بما يدخره، ويعرضه من ضوء ونور، ويفرشه ويعلقه من أقمشة حريرية ملونة غاية في التطريز والإبداع. ومن زجاج ومصابيح آية في الزركشة والتعشيق. ومن أبازير وتوابل، وبهارات، وبخور خليجية وهندية، وفارسية وسورية متعة للناظرين، وبهجة عطرة للتشمم والتنشيق. ثم قادنا الخطو البطيء الذاهل المفتون بما يرى ويسمع، ويتنشق، ويستروح، إلى الجامع الأموي العظيم، وبمحاذته الكنيس اليهودي، والكنيسة المسيحية في عنوان منيف وشاهق على تعايش الديانات التوحيدية الثلاث الكبرى التي صنعت تاريخ وحاضر الإنسان العربي المسلم، والعربي المسيحي، واليهودي. وعثرنا، ونحن نهيم على وجوهنا من درب إلى درب، ومن زقاق إلى زقاق، وباحة وساحة ومآثر، يغمرنا عبق التاريخ، وتؤرجحنا عطور الأمكنة والأزمنة، على أضرحة ومدافن لم نكن نعلم أنها في دمشق، إذ أضاءتها بسابغ علمها وفروسيتها وصلاحها وصوفيتها وعلمها. أضرحة صحابة أبرار، ونساء الرسول الأكرم، وأبطال تاريخيين، وصوفيين وصوفيات سُنَّةً وشيعة، وطوائف شتى. هؤلاء الذين عاشوا واحدا، في وئام وانسجام، وبناء، لم تعرف النعرات الدينية سبيلا إلى أنفسهم، والشقاق الطائفي المقيت طريقا إلى قلوبهم وعقولهم. هؤلاء الذين أصبح له أحفاد هَمَجٌ، قَتَلَة باسم الحقيقة الواحدة المأفونة، وامتلاك التفسير والتأويل الديني الواحد المغلق، وتصفية المختلف والمخالف والمُناظِر، والمُساجل.

نسينا في غمرة الضوء والذهول والاكتشاف أننا ضيوف ينتظرون الدليل يقودهم إلى حيث حجوا وجاءوا. وكم كانت دهشة "عماد" الدليل السياحي، أستاذ الجغرافيا والتاريخ بجامعة دمشق، كبيرة، ونحن نحدثه عن جمال دمشق، وبهاء دمشق، وعن ساداتها، وصناع مجدها، وعن مدفن ابن عربي الشيخ الأكبر، وصائغي ما به أمست تدعى " قلب العروبة النابض"، مختصرة سوريا الفاتنة التي يعيث البغاة، شذاذ الآفاق، المجرمون، فسادا في أرضها من تخريب وتحطيم وتقتيل، وطمر لكل ما صنعته الأحقاب والأزمان، وما خلفته من أثر بهي، ومعمار تليد، ومدن وبلدات وقرى تعوم في ضوء الفن والشعر والأدب والموسيقا، والعلوم.

عادت إلينا جوارحنا وطمأنينتنا، وتبخرت الحيرة، ومشاعر الخوف التي استبدت بنا في الليلة الأولى، بفضل رفقة عماد وبشار سائق الحافلة الجميلة التي ستصبح صاحبة وفية، وخليلة مخلصة طيلة الأيام السبعة القزحية التي لن تمحوها الأيام ولا العمر الذي يتقدم والذاكرة التي تتخرم.

هذه الحافلة أوصلتنا إلى ما كنا نشتهيه ونبتغيه ونصبو إليه، إلى معرة النعمان حيث العظيم أبو العلاء المعري الشاعر الحكيم، الرائي، المخترق بخطورة شعره للأزمنة جميعها. وكيف تحلو وتكتمل زيارة سوريا من دون زيارة شاعرها الأكبر، وراعيها الأشهر، وحكيمها الأمهر، وأستاذ أساتذتها الأقدر.

وفي الطريق الشجير إليها، وكان الوقت مغربا، وقطرات مطر آذار، تنزلق ناعمة لينة قطنية على زجاج نوافذ الحافلة كما تنزلق قبلات عاشق خجول على مسيل رقبة حبيبته، هتفنا بحياة عظماء الشعر والإنسانية، ورددنا أبياتا نحفظها لشيخ المعرة وفي مقدمتها هذا البيت المهيب الذي أوصى أن يكتب على شاهدته:

هذا جناه أبي عليَّ ** وما جنيت على أحد.

قال لنا مدير المركز الثقافي العربي الذي يوجد ضريح المعري فيه، بأن محمد مهدي الجواهري، وأدونيس، ودرويش، وغيرهم من كبار الشعراء، قرأوا قصائدهم في حضرته، استمدادا لبركته، وطلبا لفيضه ورضاه. وأطلعنا على مغاربة سبقونا من خلال كتبهم ومؤلفاتهم كفيلسوف الغدية محمد عزيز لحبابي، وعبد الله العروي، ومبارك ربيع... وآخرين لم أعد أذكرهم. وعلى رشفات القهوة التركية، تجاذبنا –خطفا- أطراف الحديث عن آصرة الأدب والفكر بين العرب، ومستقبل الأمة العربية. ولم نكن ندري حينها إلى ما سيؤول إليه ذلك المستقبل الذي هو الحاضر المقتول اليوم. وأن دارة المعري التي أقيم فيها المركز الثقافي إياه، والضريح عينه، قصفت مرارا، وأن المعريين (ساكني المعرة) فروا، وتركوا الشاعر إلى " قَدَرِهِ ". بل إن رأس الشاعر – عندما استعصى على الشرذمة "الجهادية" الباغية، نبشه وإتلاف قبره العطر، عمدت إلى قطعه، وجندلت قاعدته الحجرية أرضا.

إن قطع رؤوس الشعراء والمفكرين والموسيقيين- كما فُعِلَ برأس وتمثال الشاعر أبي تمام في بلدته بسوريا، ومدفنه بالموصل في العراق، وكما فعل بتمثال الموسيقي إسحق الموصلي، وبطه حسين في مصر، وأم كلثوم، وغيرهم، هو قمة الهمجية والرعونة والوهم الذي زين للشرذمة الباغية الرعناء أنها بصنيعها ذاك إنما تقتل ثانية وإلى الأبد المعني بالقطع، وتقبر ذكراه حتى لا يعود إليه عائد، ولا يبحث عن فكره وتراثه باحث. كأن التماثيل أرواح وأفكار توأد وتموت بمجرد قصفها وقطعها وتمزيقها بالرصاص، بينما هي شواخص للذكرى، وللاعتبار والتأسي. ذلك أن الروح كامنة مستكنة في ما خلفه هؤلاء العظماء والعظيمات من ثاقب الفكر والفلسفة، ورائع الموسيقا والغناء، وجميل وبديع الشعر والنثر.

وآهٍ، ثم آه على ما صارت إليه سوريا قاطبة، مدنا وبلدات وقرى وتواريخ، وحضارات وثقافات، وإنسانا، آه على ما شاهدنا ورأينا، وسمعنا وأبصرنا، وشممنا وعشنا وسط السوريات والسوريين في دمشق ومحافظة إدلب، ومعرّة النعمان، ومن خلال زياراتنا الغنية للجوامع والصوامع، والكنائس العتيقة المشيدة في بطون الهضاب والجبال المنيعة، وللأبراج العظيمة والحصون المنيفة، هنا وهناك، مرورا بحمص ووصولا إلى حلب، من مجد وعز وسؤدد.

وإني أكاد أجزم أن سوريا استهدفت استهدافا، فوق ديكتاتورية رئيسها، وقمع أجهزته. إذ ماذا تفعل عصائب الشر التي حجت إلى البلاد من كل فج عميق، ماذا تبتغي؟. أليس في مُكْنَة أبنائها وبناتها، فعل ذلك، أي الإطاحة بالنظام الاستبدادي؟، وإحلال بديل له وعنه؟. لماذا دُيِّنَتِ المعركة مع النظام؟ واستقطب لها أشرار يتزنرون بالدين، والتكبير، وإعلان "الجهاد" في ربوع سوريا ؟ لماذا؟.

فقد كان الطفل الشهيد حمزة الخطيب الذي عذب عذابا شديدا، وقتل من طرف أزلام النظام، قادرا على إشعال فتيل الثورة السورية السورية بعيدا عن الأغراب والأجانب. فهناك آلاف الحمزاوات الذين بأيديهم مصير بلادهم، وهم الأقدر على صنعه والذود عن حياضه.

*أشير إلى أن ضمير الجمع "نحن" الذي يرد في المقالة، إنما يحيل على الشعراء التالين : ثريا ماجدولين – مراد القادري- عبد السلام المساوي- أحمد هاشم الريسوني- والشاعران الموريطانيان، أبو شَجّة (وهو شاعر مجيد)، وآخر نسيت اسمه.