رأي

عبد الصمد بنشريف: تونس..الانتقال الديمقراطي الصعب

من موقع الملاحظ والمتبع لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، حرصت على مواكبة تخليد الذكرى السابعة لثورة الياسمين التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي..تجولت بين عدد من القنوات والإذاعات التونسية والعربية والأجنبية، فاستقر اختياري على إذاعة تونس الثقافية التي خصصت مجموعة من البرامج للاحتفاء بالحدث. وفي رصدها ومساءلتها للاحتقانات والاحتجاجات والمظاهرات التي اجتاحت عددا من المدن والمناطق، بذلت الإذاعة نفسها على ما يبدو مجهودا كبيرا لتضع مناسبة الاحتفال في سياقاتها المختلفة، فعمدت إلى تقديم مجموعة من الفقرات الشعرية، بدءا من الشاعر التونسي الراحل محمد الصغير أولاد أحمد، ابن سيدي بوزيد، معقل ثورة 14 يناير2011، من خلال قراءة مقاطع من قصيدته "تونسي دفعة واحدة أو لا أكون"، ثم تنتقل إلى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش وهو يتلو بصوته "كيف نشفى من حب تونس الذي يجري فينا مجرى النفس".

وعمد منشطو ومقدمو هذه الفقرات إلى برمجة عدد من الأغاني الملتزمة لمرسيل خليفة، خاصة أغنية "إني اخترتك يا وطني حبا وطواعية"، وأغان أخرى لا تخلو من نبرة وطنية ووجدانية، مثل "بكتب اسمك يا بلادي عا الشمس لي ما بتغيب".

من حق الإعلام التونسي أن يتباهى بما عاشته البلاد من تحولات ورجات إيجابية، ومن حق شتى الفاعلين بمختلف مرجعياتهم ومشاربهم أن يشعروا بالاعتزاز، ومن حق النخب أن تهندس أحلامها وترافع عن طموحاتها؛ فليس هناك أدنى شك في اقتناع غالبية الشعب التونسي بأن ثورته شكلت الشرارة التي غيرت أوضاعا كثيرة في تونس وخارجها، والخطوة الأساسية التي عبدت الطريق لتأسيس تجربة ديمقراطية ناشئة في المنطقة العربية، رغم العواصف والمشاكل والانحرافات التي تتناسل في الأزمنة الانتقالية.

وفي قراءة مسارات ثورة الياسمين، يمكن أن نسجل أن بلورة وثيقة دستورية متطورة وعاكسة لمجمل المطالب والتطلعات التي عبرت عنها الثورة شكلت لحظة سياسية وطنية مفصلية، لأن الدستور الذي خرج من رحم الثورة وتحقق حوله إجماع غير مسبوق وضع أسس وقواعد الجمهورية الثانية، التي راهنت عليها مكونات المجتمع التونسي لتقطع مع عهد الاستبداد والقمع والانتهازية والزبونية السياسية والتضييق على الحريات الفردية والجماعية وحرية التعبير والصحافة. غير أن بعض السياقات التي صاحبت مراحل ترسيخ وتوطيد هذه القطيعة لم تكن في صالح انتقال ديمقراطي سليم وسلس؛ فالنظام الانتخابي حسب عدد من الملاحظين في تونس أفرز تشكيلة برلمانية على مقاس القوى السياسية المؤثرة، في إشارة إلى حزبي نداء تونس وحركة النهضة، دون أن تصل هذه القوى التي تمسك بزمام السلطة إلى الوفاء بالوعود التي قطعتها على نفسها إبان الحملات الانتخابية التي غالبا ما يتحول فيها المستحيل إلى ممكن.

وما زاد في تكريس مشاعر اليأس والإحباط وتعميق الشرخ بين شارع منتفض يتمسك بتحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية الملحة وبين أحزاب تتعرض لاتهامات ثقيلة، هو ظاهرة التفتت والتشرذم التي باتت تعاني منها معظم الأحزاب، دون أن يكون هناك سبب منطقي تقتضيه الاختلافات التي يمكن أن تكون حيال التوجهات والاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى. وهذه الظاهرة كانت سببا في إبعاد المواطنين، وخاصة الشباب، عن حقل السياسة والأحزاب. وما ضاعف من استفحال النفور وعدم الاكتراث بالسياسة هو انغلاق الحزبين الحاكمين على نفسيهما والتمسك بالثنائية بهدف إحكام السيطرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية. وكل هذا انعكس على أداء الحكومة ومجلس نواب الشعب، إلى درجة جعلت العديد من المعارضين والغاضبين يعتبرون الدستور مجرد وثيقة للاستهلاك الإعلامي لأنه موجود على الورق فقط.

وفي تفسير انسداد الأفاق وانتشار مشاعر الإحباط والعنف والتذمر، هناك من يعتبر وبقوة أن هاجس اقتسام النفوذ والسعي بأي ثمن إلى المشاركة في السلطة طغى على الانشغالات الاقتصادية والاجتماعية، فلم تتوفر شروط انبثاق إرادة فعلية لحل المشاكل والانكباب على الملفات الحارقة، وتسبب ازدياد واتساع رقعة الاحتجاجات في إرباك دورة الإنتاج والحد من فرص النمو والاستثمار، فطرح أمام هذا الوضع المعقد خيار اللجوء إلى الدين الذي زج بالاقتصاد التونسي في مسلسل من الأزمات، اضطرت معها الحكومة إلى فرض مزيد من الضرائب ورفع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية لتمويل خزينة الدولة؛ وهو ما أشعل فتيل الغضب في عدد من المدن التونسية للتعبير عن الرفض القاطع لهذه الإجراءات التي وصفت بالمجحفة في حق الطبقات الفقيرة والوسطى، بصرف النظر عن المسار الذي اتخذته الاحتجاجات بسبب اندساس قوى رأت في إجراءات محاربة الفساد والإرهاب والتهريب مساسا بمصالحها.

ومن بين أسباب هذا الاحتقان كذلك الإفلات من العقاب والتسيب والاستهتار بالواجب الوظيفي. وكل هذا شجع على الإجرام والعنف والاستهانة بسلطة القانون؛ علاوة على استعمال المال لإفساد السياسة وإفراغ عملية البناء الديمقراطي من محتواها، وانتشار المحسوبية والولاء والانتهازية، ما أعطى الانطباع بأن السياسة هذا هو جوهرها. وساهم ضعف الأحزاب في محدودية تأثيرها على المجتمع، إذ ظلت سجينة أدوار نخبوية لا يتفاعل معها الشارع، لاسيما الطبقات الفقيرة والوسطى؛ علما أن الولاية الحالية كان هدفها منح وتوفير الشغل للناس، لكن الأوضاع التي تكتنف الاقتصاد التونسي ومناخ الأعمال المتقلب، عوامل حالت دون تحمس المستثمرين الأجانب والمحليين ليجرؤوا على الاستثمار في وضع سياسي مضطرب. وفي هذا الإطار يسجل منصف المرزوقي، الرئيس التونسي السابق ومؤسس حركة "تونس الإرادة"، غياب الحس الإصلاحي في حكومة يوسف الشاهد، مؤكدا في حوار أجرته معه مؤخرا مجلة "جون أفريك" الصادرة بباريس أنه كان بإمكان تونس أن تصبح ما أصبحت عليه إسبانيا والبرتغال لو أنها تحررت من القمع والخنق في عقد الثمانينيات، إذ كان هناك رفض للتغيير من طرف الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ومع وصول الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى الحكم فرض على تونس وضعا جامدا لمدة 30 سنة، كانت رديفا لضياع فرص كثيرة بسبب قصر النظر.

وتعكس حالة التجاذب والاستقطاب السياسي الحاد بين الأحزاب الحاكمة وأحزاب المعارضة مصدر قلق متزايد، خاصة أن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة ترخي بظلالها على الخطاب الحزبي وتسهم في توتير الأجواء وتحويل الفعل السياسي إلى حلبة للعنف اللفظي والاتهامات المتبادلة. وهكذا لا تردد بعض أحزاب المعارضة في اعتبار أن الذين يوجدون في السلطة ليسوا بأبناء الثورة، فيما يرى منتقدو الجبهة الشعبية المكونة من ثمانية أحزاب، وكأنها البديل الذي يطرح نفسه لمكافحة نظام ديكتاتوري وفاسد؛ علما أن هذا النظام هو سليل صناديق الاقتراع ومنتخب بشكل ديمقراطي ويمتلك شرعية شعبية وثورية.

ويضيف هؤلاء أن هناك أطرافا كثيرة تتقاطع مصالحها لإضعاف السلطة، تتقدمها لوبيات مستفيدة من الاقتصاد الموازي، ترفض دفع الضرائب وتقف في وجه الديمقراطية الناشئة. وإذا كانت انتفاضة الشارع الثانية لها ما يبررها على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، في إشارة إلى ما تضمنه قانون المالية 2018 من إجراءات رأت فيها الطبقات الهشة والوسطى ضربا لقدرتها الشرائية، فإن القوانين ليست مقدسة ويمكن مراجعتها؛ لكن ليس تحت الضغط والتخريب والاعتداء. هناك قانون مالي تكميلي، والدولة الديمقراطية لا تخضع للجماعات التخريبية، كما ورد على لسان قيادي في حزب النداء، أضاف على إحدى الفضائيات العربية: "لا نخشى على النظام من الشعب، نحن الأكثر ديمقراطية في العالم، وغضب الشارع نسبي..هناك تهويل ومبالغة".

وفي جميع الأحوال، وبالنظر إلى شعور المواطن التونسي بألا شيء تغير على مدى سبع سنوات، تفاقمت فيها البطالة وانسدت الآفاق وارتفعت الأسعار، ما دفعه إلى رفع شعار "ماذا ننتظر لمكافحة الفساد؟"، فإن كل هذا يضفي على تجربة الانتقال الديمقراطي الصعب في أرض الياسمين خاصية الهشاشة والاضطراب، وتعوزها جرعة من الأخلاق والترشيد حسب الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل؛ كما أن المطلوب حسب رأيه هو مشروع ميزانية تكميلي وعدالة جبائية وإحداث صندوق الدعم ليذهب الدعم إلى من يستحقونه.

*صحافي وكاتب