رأي

جمال بودمة: "رأيتُ نهاية العالم القديم!"

إذا نجوتَ من كورونا، لا تنس ان تخبر الأجيال، التي ستاتي غدا أو بعد غد، انك ولدت مرتين: عام ميلادك وعام 2020... قل لهم، وأنت تفرك عينيك، مثل خارج من الكهف أو نازل من سفينة نوح: لقد شهدتُ غرق المركب، لقد رأيتُ نهاية العالم القديم!
بعد اندحار الوباء، كل شيء سيعاد تشكيله من جديد، القيم والأولويات والتكتلات والسياسات والاستراتيجيات... إذا كنا محظوظين، ولم نلحق بجدنا الديناصور، سنعيش عصرًا جديدًا، لن يكون فيه العالم هو العالم، ولن يعود الإنسان هو الإنسان. عندما ينهي الفيروس السّفّاح جولته الحقيرة، ستتغير أشياء كثيرة، بما فيها نظرتنا إلى الحياة والطبيعة والسعادة والمستقبل والآخرين، وستدفع كثير من الحكومات ثمن تهورها، ستنهار افكار وقناعات وبديهيات، ستخرج من رحم الوباء أنظمة سياسية جديدة.
بالإضافة الى ضحاياه من البشر، يبدو واضحا ان كورونا سيحصد معه الثالوث المقدس: النفط، الدولار، البورصة... ولن يجد من يبكي عليه. حتى نهاية فبراير الماضي، كانت البنوك والمصارف هي من يقرر في مصير العالم، وكان الاستثمار في الصحة والتعليم، مجرد حماقة تثير الضحك. أتريدنا ان نصبح مثل كوبا والصين؟ هكذا كان يرد الأوربيون والأمريكيون، ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين، على من يطالبون بوضع الإنسان في قلب المعادلة السياسة. اليوم يكشف الفيلم عن ابطاله بوضوح: الإيطاليون يعيشون احدى أسوأ اللحظات في تاريخهم، ويحتاجون الى من يقف جنبهم في معركتهم المصيرية ضد الوباء. في وقت تخلى فيه عنهم الأوربيون واغلق الأمريكيون في وجههم الحدود والمساعدات، هب الصينيون والكوبيون لنجدتهم. بكين أرسلت لهم حزمة من المساعدات وكتيبة من الدكاترة، الذين اثبتوا حنكتهم في مكافحة الفيروس بمنطقة ووهان، وهافانا بعثت خيرة أطبائها... هل تريدون ان نصبح مثل كوبا والصين؟ يضحك كثيرا من يضحك اخيرا.
حتى نهاية فبراير الماضي، كانت كل الدول تسطِّر سياساتها بناء على توصيات المؤسسات المالية وإملاءات المصارف، التي لا تهتم الا بالنمو والأرباح واستقرار الأسواق وانتعاش البورصات... كيف حال البورصات اليوم؟ كيف حال مؤشراتها؟ داو جونز؟ ناسداك؟ كاك كارونت؟ كيف حال الأسهم والأرباح؟ كلها في الحضيض، أو كما يغني العبقري عبد الوهاب الدكالي: "كلشي راح مع الزمن، كلشي صار في خبر كان، الله حي، باقي حي، ديما حي..."
ولعل الحرب المستعرة بين روسيا والسعودية حول أسعار النفط، تكشف جزءً من ملامح العصر الجديد: كل واحد يريد ان يخفّض سعر البرميل اكثر كي يحقق سبقا على حساب خصمه، مما جعل الثمن ينخفض الى ارقام قياسية. كأن الأسواق اصيبت بالجنون، وأصبح الرأسمال يأكل نفسه. وليس ذلك الا اول الغيث!
من المتغيرات الكبرى أيضا ان العالم أعاد اكتشاف بعض البديهيات: اخيرا عرفنا أن المستشفى أهم من البنك والطبيب أكثر افادة من المصرفي والممرض أفضل من المُضارِب في سوق المال... لقد تعودت دول العالم على تبديد ميزانياتها في شراء السلاح وتخزينه أو تصنيعه في حالة البلدان الكبرى. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: لم تصلح هذه الأسلحة؟ هل نقصف الفيروس بالدبابات ام بمقاتلات اف35؟ هل تنجح منظومة باتريوت في اعتراض كورونا ام لا بد من صواريخ اس400؟ يا له من فشل ذريع في ترتيب الأولويات!
كل البلدان أصبحت تصفق لأصحاب البذلات البيضاء. الناس فهموا ان السياسيين والمصرفيين وخبراء الاقتصاد لن ينفعوهم في شئ، وكثير من الحكومات تعض بنان الندم، لانها أهملت القطاع الصحي وخفضت ميزانيته. الجميع بات مقتنعًا ان المستقبل يصنعه الأطباء والممرضون والعلماء.
مثلا، في فرنسا التي كانت تملك احسن الأنظمة الصحية في العالم، تم الاجهاز على المستشفى والتخلي عن كثير من المكتسبات في العقدين الأخيرين، وعندما وصلت كورونا وجدت بلدا يعاني من نقص فظيع في الأقنعة، واجهزة التنفس، ومحلول تعقيم الأيدي، كأننا في دولة من دول في العالم الثالث! أما إيطاليا وأسبانيا فبتنا ننظر إليهما كما كنا ننظر الى الصومال وإثيوبيا أيام المجاعة والحروب. احيانا الله حتى اصبح المغاربة يقولون : "واش بغيتونا نوليو بحال الطاليان!"
صباح الخير أيها العالم الموبوء. صباح الدبابات والطائرات التي لا تصلح لأي شيء. صباح البنوك والمصارف التي قتلت كل القيم الجميلة ووضعتنا وجهًا لوجه مع الكارثة. الإنسان أولًا، صحتكم قبل كل شيء. ما يصرف على السلاح ينبغي ان يصرف على العلاج والمستشفيات والأطقم الطبية والبحث العلمي. كل خبراء الاقتصاد والسياسة والمال والأعمال، كل الوزراء ورؤساء الحكومات... لا يساوون قفازا في يد طبيب أو كمّامة على وجه ممرضة!