رأي

عبد اللطيف بنعمر: هلوسات ايام الحجر الصحي

تمر أيام الحجر الصحي متثاقلة كحلم مفزع بعد وجبة مسائية دسمة... الزمن لم يعد هو الزمن، والساعة أصبحت فيها أكثر من ستين دقيقة، واليوم أكثر من أربع وعشرين ساعة، و الأسبوع كله آحاد..
ككل جيراني، و أصدقائي، وأبناء بلدي.. وككل بني البشر ألتزم البيت، إلى أجل لا يعلمه إلا الله و فيروس كورونا اللعين... سيناريو بهذا الشكل لا أحد منا كان يتصوره لا في أفلام الرعب ولا في سلسلات الخيال العلمي، التي لم تكن يوما تستهويني، إلا في حالات نادرة.
أستغرب كيف استطاع فيروس كهذا أن يشل البشرية جمعاء، في الألفية الثالثة، في زمن النانو تكنولوجي، والتشريح الدقيق، وعلم الإحياء الخلوي، والإنجازات الطبية المبهرة، وأن يوقف عجلة المال والأعمال، و حركة الصناعة والاقتصاد، والطيران والمحركات بكل أصنافها، ويخلي الشوارع و الأزقة في كل البلدان... وكيف نجح، في ما لم تنجح فيه الأمم المتحدة بقراراتها وبمبعوثيها، في وقف إطلاق النار في أكثر من نزاع مسلح وأكثر من بؤرة توتر عبر العالم، وكيف فاضت بضحاياه المصحات، والمستشفيات، و استفرد لنفسه بأكبر حصة من القتل، ضدا على باقي الأمراض، و حوادث السير، والحروب، وكل الكوارث الطبيعية...
استغرب كيف فرض نفسه موضوعا رئيسيا لنشرات الأخبار ومنشِطات الصحف، و كيف تحكم في أجنداتنا اليومية، و أعاد ترتيب قائمة أولوياتنا، و جعلنا نؤجل أحلامنا الصغيرة و الكبيرة، ومشاريعنا العاجلة و الآجلة ونختزلها في نقطة فريدة وحلم واحد... الإفلات من قبضته، و النجاة من مصادفته بسبب قُبلة، أو مصافحة، او لمسة تلقائية لمقبض، أو زر أو تذكرة حافلة..
أستغرب أيضا كيف دفع بنا الى أقصى درجات التنميط، وأجبرنا على التسمر يوميا، ساعات طوال أمام شاشاتنا الثابتة و المحمولة، نتنقل بين القنوات و المواقع، نتتبع أخبار زحفه و مخلفاته، نبحث، نحلل و نحاول أن نقرأ بين السطور والكلمات، علها تحمل معلومة أو إشارة إلى العثور على دواء أو لقاح او ترياق... نتطلع الى تصريحات الزعماء و القادة والاخصائيين و الناطقين الرسميين وغير الرسميين، كيف نجحت الصين في التغلب عليه، وماذا قرر ترامب، وما هي خطة ميركل، و لماذا تأخرت الحكومة الفرنسية في الترخيص باستعمال دواء الكلوروكين، الذي يدافع عنه البروفسور راولت... نتطلع لكل خبر أو معلومة تحمل معها نبأ الانعتاق منه قبل أن يحصل الأسوأ وتنقلب المعادلة ، فنتوقف عن عد موتانا... ونكتفي بعد كم بقي منا على قيد الحياة..