تحليل

طب الفقهاء... وسوء الفهم

إدريس الكنبوري

أقول وأكرر: إنها معركة مفاهيم.

وعندما نطالب بالتجديد الديني والإصلاح الثقافي نتصور أننا نصلح عطلا في سيارة، نصف ساعة وها أنت في الطريق. 

وقديما قال القائل: لا يصلح العطار ما أفسد الدهر. 

ولم يكن يقصد التيئيس من الإصلاح، بل أراد أن يقول لك إن الدهر زمن، وإن ما أفسده الزمن يصلحه الزمن، لأن العطار عادته تقديم وصفة سريعة والانصراف. 

والفساد عندنا فساد ثقافي. وأنا أتعجب من بعض القوم الذين يصفقون لمفكر كالجابري رحمه الله لأنه يرى أن الأزمة في العقل العربي، ولكنهم يتكلمون وكأنهم بلا أزمة، يعني بلا عقل. 

وعندهم أن الأزمة في العقل العربي القديم فقط. أما نحن فقد غادرنا الحجر الصحي. 

ورحم الله الجابري فقد أساء إلى التراث ليحسن إلينا. غفر الله له الأولى وتقبل منه الثانية. 

وهذا حصل مع رأيي حول الطب والفقه، فقد أسيء فهمه بسبب البرمجة العقلية المسبقة.

فعقولنا اليوم، بسبب التلوث الثقافي وهيمنة مثقفي الوعظ والإرشاد الذين يخطبون ولا يفكرون، صارت مثل أجهزة ركبت بداخلها أسطوانات محددة. 

وأنا بالطبع أعرف أين أتحرك، وأعرف أن بعض مواقفي سيساء فهمها، لأن الأفكار الجديدة المبنية على التفكر تصدم المقررات. 

وأنا أفهم جيدا أن تاريخنا القديم وفقهنا القديم وكل شيء لنا قديم، غير مرحب به. وحين تقول شيئا عنه تبدو مثل رجل أغبر خارج من كهف. 

وهذا بسبب عقدنا النفسية وبسبب الأسطوانات التي ركبت في الأجهزة. 

لكن هناك أقواما تخلصوا من تلك الرواسب ويتنفسون هواء نقيا في الجامعات يقولون عن تاريخنا القديم ما لا يريد بعضنا سماعه. 

كبار الأطباء في الغرب كتبوا عن الطب عند المسلمين.

كبار علماء التشريع في الغرب كتبوا عن عظمة الفقه عند المسلمين.

كبار الجغرافيين في الغرب كتبوا عن علم الخرائط عند المسلمين.

كبار رجال السياسة في الغرب كتبوا عن الفقه السياسي عند المسلمين.

كبار علماء اللسانيات في الغرب كتبوا عن عبقرية المسلمين في علم اللغة.

....إلخ.

ولكننا متعصبون. وأسوأ تعصب هو أن تكون متعصبا ضد نفسك. فهذا أقبح مرض يصيب الحضارات على الإطلاق. أن تنتسب إلى أبيك وأنت تطأ قبره.

ولم يتقدم شعب على الإطلاق في التاريخ من دون أن يعيد الفخر بالأجداد إلى أبنائه. بل إن شعوبا صنعت تاريخا كاذبا لنفسها كي تعيش، لأنها تعرف أن من ليست له شجرة نسب ينكره التاريخ.

ونعود إلى قصة الطب والفقه، وهي واحدة من القصص الحزينة في تاريخنا وما أكثرها.

إنني مدرك لما أقوله، ومدرك لمشكلاتنا، ولكن مشكلاتنا ليست قيمة مقارنة مع نقيضها. 

وهناك من يفخر بأنه يسلط الضوء على النقاط السوداء في تاريخنا لأغراض معينة، وهي قليلة جدا، وأنا أريد تسليط الضوء على النقاط البيضاء في تاريخنا لأغراض معينة أيضا، وما أكثرها.

ولكل غرضه. 

وهؤلاء يفعلون ذلك للتنقيص من تاريخنا لأنهم يرونه صغيرا. أما أنا فأراه أعظم تاريخ في تواريخ البشرية. وكل ميسر لما خلق له.

لم أقل إن الفقهاء كانوا أطباء كلهم، ولكن قلت أنهم أعطوا مساحة للطب في الفقه. 

وهذا لمن يقول إن الطب لم يكن حاضرا عند الفقهاء. 

والمشكلة كما قلنا في البداية ونكرر: في المفاهيم.

مفهوم الفقه أنه معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأعمال المكلفين. 

وأعمال المكلفين هي أعمال الواقع اليومي بكل تفاصيله. فالفقيه هو رجل الخبرة بالأدلة وبالواقع.

لذلك كان الفقيه يرجع إلى معارفه في الطب والفلاحة والتكسب أو يرجع إلى من هم أهل خبرة بها، قبل إعطاء رأيه. 

ونحن نفهم الفقه فهما كنسيا. أنه القول في أفعال القلوب. 

ولكن الفقه كان قولا في التجارة والصناعة والسياسة والعلاقات الدولية وفي الزواج والطلاق وصيد النمر وأكل الجراد زمن الوباء. 

 ونتصور أن الطبيب غير الفقيه وهذا غير ذاك.

وهذا خطأ فادح. 

الفقه عند جميع المشتغلين بأنواع العلوم كان هو المقرر المشترك، لأن الفقه كان الأساس، ولكن من ذهب إلى علم ما فلأنه غلب عليه.

وقد كتب هؤلاء في كل شيء ولكن غلب عليه شيء أو إثنان. 

ابن خلدون كتب في التصوف والسياسة والفقه ولكن غلب عليه التاريخ. الذهبي كتب في الحديث والتاريخ ولكن غلبت عليه الطبقات. ابن تيمية كتب في التفسير والحديث ولكن غلب عليه الفقه. الرازي كتب في المنطق وعلم الكلام ولكن غلب عليه الطب. وهكذا.

وعندما يقول باحث أوروبي عن الرازي إنه أعظم أطباء الإنسانية، يفهم بعضنا أنه يتحدث عن الرازي الذي كان خصما لفلان من العلماء، أما أنا فأفهم أنه يتحدث عن رجل أنجبته حضارتنا العظيمة التي أنجبت خصمه. 

والذين يريدون اختلاق النعرات بالحديث عن خلافات بين هؤلاء يصيدون في الماء العكر ويحتاجون إلى منهج. 

خلافهم كان خلافا داخل ثقافة واحدة، وبعضهم كان يكمل بعضا في صناعة حضارة عظمى. 

وإذا اختلفوا فليسوا أهم من الصحابة. 

لكن الجميع أدى رسالته.

وكانوا عظماء حقا، بألف دليل.

وأحد الأدلة أننا منذ مائة عام على الأقل لا زلنا ننبش قبورهم ونعيد الكلام فيهم ونكرر وبكل اللغات

 فما جفت الأقلام. 

وفي مرحلة معينة اعتقد الكثيرون أن هؤلاء دخلوا منطقة النسيان. لكنهم يطلون برؤوسهم ليزعجونا.

ومنذ اليوم لن يختفوا أبدا. إنهم عائدون لأنهم الآباء.