رأي

لحسن العسبي: المغاربة يعيدون اكتشاف قواتهم المسلحة الملكية كذراع حديث ومحترف للأمان العام

تعتبر القوات المسلحة الملكية أول مؤسسة منظمة ربحها المغرب بعد استقلاله، بل كانت هي المؤسسة الوحيدة المهيكلة بمقاييس التنظيم العسكري المعمول به في الدول الحديثة. وتكاد هذه التجربة تسجل فقط في ثلاث تجارب عربية وإسلامية هي التجربة التركية والتجربة المصرية والتجربة المغربية. بينما في باقي البلدان العربية فإن مؤسسة الجيش تأسست بالتواتر مع مرور سنوات استقلال تلك البلدان وتأسيسها أصلا كدول حديثة ما بعد اتفاقية سايكس بيكو، التي قسمت الخريطة العربية والإسلامية إلى أنظمة ودول تسعين بالمئة منها جديدة تماما، ولم تكن قائمة أبدا كدول.
بالتالي، فإن المؤسسة الحديثة الوحيدة التي استند عليها مغرب الإستقلال، كونها كانت قائمة ومنظمة وذات بنية تدبيرية متكاملة وتقاليد تسييرية وتراكم تاريخي قديم جدا، هي مؤسسة الجيش. ولو عدنا إلى الكثير من الدراسات التي اشتغلت على تاريخ الجيش بالمغرب، سواء المغربية أو الأجنبية، سنجد أنها تجمع كلها على أن بلادنا شهدت مراحل من تجريب نظم عسكرية حسب بنية الأنظمة السياسية. وهي النظم التي لم تخرج عموما عن نوعين كبيرين، الأول جيوش تأسست على العصبة القبلية (وهي هنا بالأساس تجارب دولة المرابطين ودولة الموحدين ودولة المرينيين)، الثاني جيوش تأسست على العصبة الدينية وعلى الإمتثال للزوايا والنسب الشريف للعائلات الحاكمة (هنا بالأساس دولة الشرفاء السعديين ودولة الشرفاء العلويين القائمة إلى اليوم منذ أكثر من 4 قرون).
لكن ما تسجله مصادر التاريخ تلك، هو أن المغرب من البلاد العربية والإسلامية القليلة التي بادرت منذ القرن 17 لكي يكون لها جيش نظامي، بمعنى أن تكون لها منظومة الجندية كمهنة مستقلة قائمة الذات، وهي التجربة الهامة في زمنها وضمن منظومتها الدولية آنذاك، التي دشنها السلطان العلوي مولاي اسماعيل، من خلال تجربة "جيش العبيد" و "جيش البخاري" (والتسمية هنا آتية من أن قسم الجندية حينها كان يتم على صحيح البخاري). ومعنى ذلك أنه كانت للجندي صفة رسمية وله أجر وديوان خاص بتدبير شؤونه. لكنها تجربة لم يكتب لها التطور والإستمرارية لأسباب تنظيمية ومجتمعية وثقافية سلوكية (بالمعنى السياسي للتدبير العمومي)، فتعطلت ضمن سياقات الصراع على السلطة بعد وفاة السلطان مولاي اسماعيل.
عودة فكرة الجيش النظامي المؤسساتي، ستبدأ في أواسط القرن 18، خاصة بعد هزيمة المغاربة بقيادة ولي العهد آنذاك الأمير محمد بن عبد الرحمان، أمام الجيش الفرنسي المحتل للشمال الجزائري (حينها) في معركة إيسلي يوم 14 غشت 1844. فقد كانت تلك الهزيمة البداية للتفكير في إصلاح منظومة الدولة المغربية كهم لجزء من النخبة الحاكمة، وكان في المقدمة من محاولات الإصلاح تلك، إصلاح الجندية ودور الجيش وامتلاك صناعة السلاح. فكان أن بدأت محاولات جنينية في عهد السلطان محمد بن عبد الرحمان (محمد الرابع)، من خلال محاولة الإفادة من التجربة التركية، لكن أهم محاولات الإصلاح هي التي باشرها ابنه بعده، السلطان مولاي الحسن الأول، من خلال تأسيس دور للبارود (أي معامل جديدة لصناعة الأسلحة) بخبرة إيطالية وإنجليزية، وكذا استقدام ضباط إنجليز من جبل طارق ومن سكوتلاندا وضباط فرنسيين وألمان، في محاولة لإعادة تنظيم الجيش بالمغرب بمقاييس حديثة للجيوش النظامية. وهي المحاولات التي أنتجت شكلا جنينيا جديدا للجيش ببلادنا بقي يراوح مكانه بين حسن التراكم والتنظيم وبين خيبة التلكؤ بسبب سوء في التدبير أو بسبب توالي المشاكل الداخلية مع العديد من التنظيمات القبلية هناك وهناك، مما استنزف ذلك المجهود الإصلاحي.
لهذا السبب، فحين جاء الإستعماران الفرنسي والإسباني بعد اتفاقية الحماية يوم 30 مارس 1912، فإنهما وجدا بنية قائمة لمنظومة جيش ملكي مغربي شريفي، بوزراء للبارود (وزراء دفاع، لعل أكثرهم شهرة هو الوزير المنبهي على عهد السلطانين مولاي الحسن الأول وابنه مولاي عبد العزيز). مما يعني أن الإستعمارين معا لم يدخلا إلى المغرب على فراغ تنظيمي تدبيري للدولة، بل كانت هناك مؤسسات قائمة، كما يعترف بذلك في مذكراته الماريشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي بالمغرب)، حددها في مؤسسة الجيش ومؤسسة الفقهاء والزوايا (القانون)  ومؤسسة التجار (جزء منهم كانوا محميين وجزء وازن منهم من المغاربة اليهود).
بالتالي، فحين استعاد المغرب استقلاله، وجد أمامه كدولة لممارسة دوره السيادي مؤسسة استراتيجية وحيدة قائمة وجاهزة وفعالة هي مؤسسة الجيش. بكثافة بشرية مهمة ووازنة حينها، مدربة وذات تكوين نظامي عصري وحديث. وأكثر من ذلك أنها تشكلت من خلال جنود مكونين ضمن المدرسة العسكرية الفرنسية وجنود مكونين ضمن المدرسة العسكرية الإسبانية وجنود قادمين من جيش التحرير المغربي (سواء في الشمال أو في الجنوب). وسيلعب هذا الجيش دورا محوريا في كل مراحل الإنعطافات الكبرى لسنوات الإستقلال الأولى للمغرب عسكريا، خاصة بالجنوب لاسترجاع طرفاية من الإستعمار الإسباني سنة 1957، وصولا حتى حرب الرمال للرد على هجوم للقوات الجزائرية الحديثة الإستقلال بحاسي بيضا سنة 1963.
لكن هذه المؤسسة، على قدر ما لعبت أدوارها العسكرية الطبيعية والعادية (للدفاع عن الوحدة الترابية للبلاد أو ضمن مهام أممية عبر العالم)، فإنها ستلعب أيضا أدوارا اجتماعية وإنسانية حاسمة في لحظات كوارث كبرى واجهها المغرب، لعل أكبرها كان زلزال أكادير في سنة 1960. حينها برز دور وطني آخر للقوات المسلحة الملكية المغربية، كان حاسما ومؤثرا في عمليات الإنقاذ والتطبيب والعلاج وأيضا إعادة بناء المدينة المدمرة بالكامل. ولن يعود إلى لعب دور تأطيري وطني كبير حتى سنة 1975، أثناء وبعد تنظيم المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء الغربية للمغرب من الإستعمار الإسباني. هنا مرة أخرى كان الإعتماد على اللوجيستيك العسكري الحاسم لهذه المؤسسة كبيرا وفعالا.
هكذا، فإنه منذ تلك السنة، أي منذ 1975، لم يعش المغاربة تواجدا ميدانيا على كامل خريطة البلاد لقواتهم العسكرية الملكية حتى هذه الأيام لمواجهة كارثة وباء كورونا. وهو التواجد الذي خلق عنصر اطمئنان ملموس لدى المواطن المغربي، بحكم السمعة التي راكمها الطب العسكري المغربي في العديد من المناسبات سواء داخل المغرب أو خارجه (مخيمات حماية ضحايا موجات البرد والثلوج بالأطلسين الكبير والمتوسط. ثم الدور الإنساني والطبي في الصومال وهايتي والبوسنة وفي السنوات الأخيرة بالأردن لتقديم المساعدة للاجئين السوريين وبغزة لتقديم الدعم للفلسطينيين المحاصرين). مع تسجيل معطى هام، هو أن بنية القوات المسلحة الملكية قد تغيرت تماما من حيث مستوى تكوين أفرادها، الذين أصبحوا اليوم جنودا وضباطا ممتلكين لمختلف مناهج المعرفة التواصلية الحديثة التي تكون للجيوش النظامية المحترفة.
من هنا، ذلك الشكل من التواصل الذي يسجله الجميع لأفراد هذه القوات مع رجل الشارع المغربي، من منطلق توعوي بناء، بلغة حوار جديدة تعتمد منطق الإقناع وتستند على قوة القانون. مما سمح اليوم بإعادة اكتشاف عمومية لمؤسسة القوات المسلحة الملكية جديدة ومختلفة ومفرحة أيضا، لم تتحقق منذ أسابيع المسيرة الخضراء سنة 1975. دون إغفال التطور الحاصل أيضا في وسائل العمل وآليات الضبط والتنظيم والتدخل. والتي تتكامل باحترافية مع الجيل الجديد من رجال السلطة العمومية والجيل الجديد من رجال الأمن. مما يجعل المتتبع الملاحظ، يسجل أن تمة تطورا ملموسا وحقيقيا طال أغلب هذه المؤسسات الوطنية المغربية (جيش، شرطة، رجال سلطة)، نتيجة لخيار ترسيم ثقافة تدبيرية جديدة متوائمة مع دفتر التحملات العالمية، الذي أساسه احترام حقوق الإنسان والحداثة في ابتكار حلول للمشاكل.
كورونا، امتحان كبير يحاسب الكثير من هشاشة واقعنا العمومي الوطني (خاصة على مستوى الصحة العمومية)، لكنه أيضا يشكل فرصة لكي نعيد اكتشاف بغبطة مستوى تطور مؤسسات وطنية وازنة مثل مؤسسة الجيش ومؤسسات الشرطة ومؤسسة السلطة العمومية. هنا يقف المرء فعليا عند مستوى تطوري ملموس حققته الدولة بالمغرب. وهذا مكتسب إيجابي لا يمكن إلا تسجيله بإيجابية من منطلق وطني، والمطالبة بحمايته وتوسيع هوامشه.